الأربعاء، 4 مايو 2016

الرجل الذي ليس له وجود


The Non Existent Man
By: Wynne Whiteford
Fantastic Magazine Vol.27,No.6 July,1979 published quarterly by ULTIMATE


الرجل الذي ليس له وجود
قصة: واين وايتـفورد

 ترجمة : صالح حبيب




ـ مارك .. لا أريد لك ان تستمر بهذا الأمر...قالت الزوجة:
ـ ماذا ؟
كان مارك فالون يهم بالخروج من الغرفة حين عاد أدراجه ،وبخطوتين واسعتين صار بالقرب من الطاولة التي تتوسط المكان، فوضع حقيبة اوراقه ، ونظر الى زوجته وقد قطب حاجباه وشحب وجهه ، فوضع ذراعيه على كتفيها قائلا:
ـ ريا .. لقد قمنا بهذا النوع من التجارب مئات المرات.. وهذه الليلة سأنفذ ما كنت أخطط له منذ سنين ،واشعر اليوم ان الطريق ممهدة .
ـ لا تفعلها يا مارك أرجوك انني اشعر بالخوف على حياتك.
هز مارك كتفي زوجته بودّ ثم قال مبتسما :
ـ ليس هنالك مخاطر تذكر ياحبيبتي فنحن نعرف كيف تعمل مركبتنا الزمنية ، سبق وان ارسلناها الى الماضي مرارا والى ازمان ابعد مما خططنا له ، وهاهي تعود في كل مرة اوتوماتيكيا بنجاح الى زمننا وحسب البرنامج الذي تم تغذيتها به هذا كل ما في الأمر يا ريا ولا شئ يمنعنا بعد ذلك من الذهاب بواسطتها الى اي زمن نشاء من الماضي ..لا شئ .
ثم اضاف بتهكم :
ـ ولكنها تخوفات جونسون الخرافية حول خطورة التلاعب بتسلسل احداث الزمن الماضي.
مطّ شفتيه ثم اضاف:
ـ كما لو انها لا يمكن ان تكون افضل مما كانت عليه
فقالت ريا :
ـ لكن الحقبة التي سترحل اليها من الزمن يا مارك حافلة بالفضاعات ، جرائم قتل .. نهب وسلب واعتداءات ،كل ذلك منشور على كل صفحة من صفحات الجرائد الصادرة آنذاك المحفوظة في خزانة الكتب القديمة ..ألم تقرأها ؟
ضحك " مارك " .. وأخرج من جيبه مسدسا صوبه الى نقطة على الجدار..
ارتعبت زوجته عند رؤيتها السلاح وصرخت بصوت مرتجف:
ـ ضع هذا الشئ المخيف جانبا يا مارك .. انه مثال للهمجية.
فقال مارك محاولا تهدئتها :
ـ ليس هناك ادنى احتمال حتى ولا واحد بالألف في انني سأستعمله ولكنني سأشعر بالأمان وانا أحمله معي ، اسمعيني يا حبيبتي ، لن ابقى في ذلك الزمن اكثر من مائة دقيقة ، أي بما يكفي من الوقت للعثور على جون وايصال الصور الفوتوغرافية له والتقارير ومن ثم العودة.
ـ ماذا لو ظن بأنها مزيفة ؟
ـ لن يظن ذلك ، إلا فما السبب الذي دعاني لاختياره من بين جميع اجدادي حسب اعتقادك ؟
ـ لأنك عثرت على دفتر مذكراته ، وهو الوحيد الذي تعرف مكان سكنه .
ـ حسنا هذا احد الأسباب .. ولكن الأهم من كل ذلك انه كان ذو عقل نيّر ، كان مخترعا ، ليس مخترعا عظيما ، ربما ، ولكن مازالت بعض المبتكرات والأختراعات تعرف بأسمه حتى يومنا هذا .
كانت ريا تصغي بأرتباك وقلق فقالت:
ـ ولكنك لاتعرف ما سيطرأ عليك من تأثيرات في الوقت الحاضر بعد ان تقوم بتغيير احداث الزمن الماضي بأعطائك اياه خرائط ومخططات لأختراعات لم تخترع في عصره بعد ، وتريد انت لها ان تخترع قبل اوانها !
فتح مارك ذراعيه على اتساعهما وهو يقول :
ـ ليس قبل أوانها بوقت طويل جدا ، وعلى اية حال ، لا يهم ان اخترعت المادة المضادة للجاذبية على يد " كرانستن " في عام 1996 او على يد جدّي الثالث في نهاية الخمسينات او الستينات من القرن العشرين فهذا سيكون شيئا عاديا جدا ، كأي شئ آخر .
ضحك ثم اضاف:
ـ انه سيعرف كيف يستفيد مما بين يديه ، فقد كان ذكيا ، وتذكري انه ترك نتيجة ذكائه ثروة ، ولكن ثروته تلك لم يتبق لنا شئ منها ، ولكن مشروعنا هذا سيجلب لنا الثروة يا ريا فهذه المخترعات التي سأطلعه على اسرارها ، ستدر عليه وعلينا ارباحا طائلة ، وتمنحه ثروة طائلة ، بل اعظم ثروة يمكن ان يحصل عليها احد ، وسيتخلف منها الكثير لأبنائه واحفاده وحتى عصرنا هذا وبذلك سيكون حالنا مختلف تماما ، سنكون اغنى مما نحن عليه الآن بل أغنى مما تتصورين ..
تناول مارك حقيبته الصغيرة وهو يقول :
ـ ليس هناك مايحول دون نجاح المهمة يا حبيبتي ، ستنجح لأنني أنا من يدير المشروع وليس جونسون ، ذلك المتشائم.
نهض مسرعا و بحيوية فقبّلها مودعاً:
ـ سأقول لك الى اللقاء ، لأن علي ان اقطع مسافة طويلة عبر الزمن ، مائة وسبعة وثلاثين عاما للذهاب ومثلها للأياب ، ولكن هذا سيتم في غضون دقائق او ساعات بفضل المركبة الزمنية.
تضرعت ريا برهبة وخوف :
ـ يا الهي ، لطفا بنا .

***
هبط مارك بسيارته الحوامة المضادة للجاذبية قرب المختبر وترجل ثم قطع الممر المظلم المؤدي الى باب المختبر وفتح البوابة و ذهب الى الداخل.و بعد ان اصبح في غرفة داخلية خالية من النوافذ وتأكد من إحكام غلق الأبواب اضاء المصابيح فبدت مركبة الزمن امام عينيه وهي جاثمة وسط قاعة المختبر وكأنها حلم ، بل هي حلم تحقق اخيرا .
كانت المركبة تشبه الطائرة الى حد كبير وهذا الشكل ضروريٌ لها فحاجتها الى الجناحين والمحركات هو لغرض التجول في الفضاء لتحديد المكان المطلوب وليس الزمن فحسب. كما انها كانت تحتوي على فتحات دائرية صغيرة تحيط بمقصورة مستديرة مغلقة ، وتطوقها حافة عريضة تمر بها ملفات طاقة تكسير الزمن.في الأسفل كان هناك ثلاث وحدات نفاثة ومضادة للجاذبية تعمل على دفعها في مختلف الأتجاهات بعد ان تتولى قوة الجذب المضاد رفعها عن سطح الأرض ، وهذه التقنية تشبه ماهو متبع في سيارته الحوامة.
ضغط مارك زرا خاصا ففتح سقف المختبر كاشفا عن صفحة السماء المرصعة بالنجوم ، دخل الى المركبة بعناية فائقة وراح ينظم بدقة متناهية اقراص التوقيت حتى استقرت مؤشراتها على التأريخ المطلوب والمدون في مفكرة جده الثالث .
كانت اليوميات المدونة في المفكرة تحت ذلك التأريخ تشير الى ان تلك الليلة كانت هادئة لم يزعجه خلالها احد ، وكانت بالتحديد ليلة الثالث عشر من آذار عام1958 ، أي قبل مائة وسبعة وثلاثين عاما .
أخيرا .. شغل المولد ، واخذت اصوات مختلفة وغريبة تصدر من كل مكان ..بعدها بدأت المركبة بالأرتفاع بفعل قوة الجاذبية المضادة ، وشيئا فشيئا اصبحت المركبة على ارتفاع الف قدم ، ثم ثلاثة آلاف ، واخيرا عشرة آلاف قدم فوق سطح الأرض. وأخذت تحوم في الجو ، وفي هذه الأثناء نظم مارك وقت الوصول الى الماضي على الساعة التاسعة والنصف من ليلة الثالث عشر من آذار 1958 ثم أرسل التيار ليتدفق عبر الأسلاك والملفات.
فتح عتلة التشغيل ولم يشعر بعد ذلك إلا بمجالات تشويه الزمن وهي تسري في بدنه بعنف ، وفجأة هدأ كل شئ ، فوجد مارك نفسه يحلق بمركبته الزمنية فوق بقعة من الأرض لم يرها من قبل.

***

كانت تحته مدينة كبيرة تبدو على شكل بقع ضوئية خافتة تتناثر هنا وهناك ، وشوارع ضيقة ، نظر الى الخارطة القديمة التي كانت معه ليقارن ما يراه على الأرض مع المخطط على الخارطة ، ضغط ازرارا معينة فأنحدرت مركبته بشكل افقي فوق النهر حتى اجتازته ، فتساءل مارك في تلك اللحظة ان كان احد من أبناء هذا الزمن قد شاهد مركبته الغريبة من على سطح الأرض . وعلى اية حال فهذا لن يؤثر بشئ على الأطلاق فحتى لو شاهده احد من السكان فسيتصور بأنه واحد من تلك الأجسام المجهولة الهوية التي كانت تظهر بين الحين والآخر في هذا الزمن وكانوا يسمونها الاطباق الطائرة.
استخرج مارك احداثيات المكان وبعض المعلومات الجغرافية ثم هبط بمركبته الزمنية في مكان منعزل كان قريبا من خط للسكك الحديدية ، نظر اليه مارك بتعجب فهو لم ير مثيلا له من قبل ، ولم يتوصل الى معرفة الغرض من امتداد هذا الشريط الحديدي على الأرض .
حمل مارك حقيبته الصغيرة وعلقها في حزامه ثم نظم جهاز السيطرة في المركبة لتعود الى المختبر في زمنه الأصلي على ان ترجع اليه في الوقت المحدد والذي يكون عنده قد انجز مهمته . استقر القرص اخيرا على الساعة الحادية عشر قبل منتصف الليل كوقت لعودة المركبة لكي تعيده من جديد الى زمنه الأصلي. قفز بسرعة وجرى مبتعدا عن المركبة التي اختفت من المكان والزمان.
توقف قليلا وجال بناظريه لتحديد الطريق الذي سيسلكه. وبعد هنيهة مر قطار على خط السكة الحديد ، فتذكر حالا بأن هذه الأشرطة الحديدية لها علاقة بواسطة النقل القديمة المستخدمة في هذا الوقت وهي القاطرات ، كان القطار يصدر هديرا يصم الآذان وكان يبدو لمارك بأنه مجرد صناديق تسير ببطئ على عجلات من الحديد ولها نوافذ غريبة ، يضيء داخلها نور اصفر شاحب ، يجلس المسافرون داخلها وقد بدا عليهم التعب والسهر. راقب هذا المشهد الغريب بتعجب ثم واصل جريه مبتعدا عن المكان واتجه صوب الشارع المطلوب مارا بالقرب من فسحة بين الأشجار المنتصبة على جانبي الطريق.
نظر بأعصاب مشدودة في كل الأتجاهات ومخيلته مليئة بصور واخبار الصحف والمجلات القديمة التي صدرت في هذه الفترة وهي تتحدث عن جرائم القتل والنهب وقطاع الطرق والتي وصفتها زوجته بأنها فترة همجية. واصل جريه على الطريق المعبدة بالأسفلت ، وفجأة سمع صرخة انبعثت من يمين الطريق:
ـ هَيْ .. انت .. توقف
نظر مارك الى حيث صدر الصوت، فشاهد شبحا يخرج اليه من مكان مظلم كثيف الزرع، فخفف من سرعة جريه واستدار الى الشبح الذي توضحت معالمه الآن، وكان شخصا يضاهيه بالحجم وفي يده مسدس .. إلا انه لم يستطع ان يتبين معالم وجهه بسبب قلة الأضاءة في المكان وما ان لاحظ الشخص الغريب مارك وهو يخفف من سرعته خرج اليه معترضا طريقه شاهرا مسدسه طالبا منه التوقف، وما كان من مارك إلا ان سحب مسدسه هو الآخر بسرعة خاطفة وسدده الى صدر الرجل.. لم يكن لدى مارك متسع من الوقت للشعور بالخوف او للتفكير في كيفية تجنب المشاكل او للتفاوض مع قطاع الطرق، فوقته محسوب عليه بالثواني.
أقبل الرجل الغريب متقدما في الظلمة نحو مارك ومسدسه بيده وهو مستعد للرمي ، إلا ان مسدس مارك كان أسرع ، فومضت فوهته بلهب برتقالي اضاء بريقه الشارع المظلم الخالي وتردد صدى الأطلاقات ممزقا الهدوء .. طلقة .. اثنتان..التفًّ الرجل حول نفسه اثر الرصاصتين اللتين نفذتا الى صدره وكتفه كالمطارق. وتهاوى مرتطما بالأرض جثة هامدة وهو يحاول ان يغرس اصابعه في اسفلت الشارع.

***
ركض مارك متخفيا من اضواء الشارع التي تنير الطريق وهو يرتعد خوفا وهلعا، أحس بمرارة وجفاف في فمه وتمنى حينها لو ان الحادث لم يقع، ولكنه كان مقتنعا مع نفسه بتلك النتيجة، فلو قبض عليه وتم استجوابه لتعرض لمشاكل هو في غنى عنها أولها انه لم يكن ليستطيع الرجوع الى مركبته الزمنية الى الأبد، وبذلك سيبقى سجينا في هذا العصر الهمجي لما تبقى من حياته.
استمر بالركض حتى وصل الى الشارع الذي يسكن فيه جده الثالث جون فالون في شقة صغيرة بأحدى البنايات ، مضت حتى الآن عشرة دقائق من الوقت المخصص للمهمة . وقف امام بوابة المبنى وراح يبحث بين اسماء الساكنين المدونة على صناديق البريد ليتأكد من وجود الساكن المطلوب وليسترد بعض انفاسه اللاهثة.
ـ هاهو ..{ جي . أي . فالون} شقة رقم 3ب
ضغط على زر الجرس الموجود اسفل العنوان ثم فتح باب البناية وارتقى السلم الى الطابق الثالث ، كان يشعر بالتشنج يدب في عضلات ساقيه من جراء الجهد الذي لم يألفه في التنقل بين طوابق بناية مرتفعة.
فتح باب الشقة فتسلل الى الممر ضياء اصفر كئيب وظهر من خلاله شاب نحيل ، قاتم البشرة ، متوسط القامة راح ينظر بأستغراب في وجه مارك. أحس مارك بالنفور والرهبة عندما خطر له بأنه امام حدث مرعب وغريب، أغرب من الخيال، فهو امام جده الثالث وهو شاب في العشرين من عمره ولم يتزوج بعد. فأبتدأ مارك الحديث بسؤال تقليدي:
ـ السيد جون فالون؟
ـ هذا صحيح .
ـ اقدم لك نفسي ، فالون ، جون فالون قريبك ، ولكننا لم نلتق قط .
ضم الشاب قبضتيه وهو يرمي مارك بنظرة فاحصة وقال :
ـ أمتأكد انت؟ ..لا علم لي بوجود قريب لي اسمه مارك، وعلى اية حال تفضل بالدخول.
كانت الغرفة مؤثثة بطريقة غير مألوفة بالنسبة الى مارك ، فهي تحتوي على اثاث من الطراز القديم المصنوع من الخشب ، وعلى المنضدة في احدى الزوايا كان هناك مصباح يشع بنور اصفر هادئ ، جلس مارك على الكرسي المجاور له بينما تقدم جون فالون الى دولاب صغير في الجدار واخرج منه زجاجة شراب وقدحين وسأله ان كان يرغب في تناول كأس من الشراب.
ـ لا .. شكراً .. فليس لدي الوقت الكافي
لاحظ مارك عيني جون وهما تجولان بدهشة في ملابسه وحذائه الغريب ، وأخيرا استقرتا في عينيه وقال :
ـ والآن ..اخبرني .. ما هو نوع القرابة يا سيد ؟
تردد مارك ونظر الى ساعته والتي كانت تشير الى العاشر ة إلا ثلثا ، فقد مضت عشرون دقيقة من دقائقه المائة. وقال :
ـ قد تجد صعوبة في تقبل ما سأقوله لك في بادئ الأمر ، ولكنك ستفهمني فيما بعد فإنك شاب ذكي ، انني في الواقع حفيد حفيد حفيدك او انك بالأحرى جَدُّ جَدُّ جَدي ، أي انك جدي الثالث .. والموضوع هو انني قدمت عبر الزمن من المستقبل الذي سيأتي بعد مائة وسبعة وثلاثين عاما من الآن بواسطة مركبة زمنية أي انني اتيت الى هذا الزمن من العام 2095 ميلادي..
حدّق جون به دون ان ينبس ببنت شفة ، ثم انفجر ضاحكا فجأة وهو يقول:
ـ حسناً ، ولكنني سألتك سؤالا معقولا وهو مانوع القرابة بيننا ؟ وعليه ..فأنني اتوقع منك رداً معقولا ايضا .
وَجَمَ وجه مارك ثم قطب جبينه ثم قال بجدية اكثر :
ـ انا جادٌ بما اقول يا سيد.. انظر..هناك.
استدار مارك الى احد ادراج المكتب الموجود في الغرفة ثم قال :
- هناك تحتفظ بمفكرتك التي تدون بها يومياتك ومواعيدك المهمة .. أليس كذلك ؟
ـ بلى وما في ذلك ؟؟
عندها ، اخرج مارك من حقيبته نسخا مصورة للمذكرات وعرضها عليه قائلا:
ـ أمس كتبت في مذكراتك ما يلي : استلمت شيكا من ب.ستوارد بمبلغ اثنين وخمسين دولارا واليوم دوَّنت او ستدوِّن بها مايلي تناولت طعام الغداء مع مــي ..اتصلُ بأندروس الساعة الثانية والنصف بعد الظهر. هل هذا صحيح ؟
تحول وجه جون الى ابيض شاحب وقال بغضب:
ـ قل لي بحق الجحيم ما الذي تقوله ؟
أمسك مارك بذراع جده جون وقال :
ـ غدا ستكتب : اتصلت بأندروس الساعة الحادية عشرة قبل الظهر..و..
فقاطعه جون بحدة :
ـ غدا ؟ ماذا تعني بغداً ؟
ناول مارك النسخ المصورة لجده الشاب والتي هي عبارة عن صورة طبق الأصل لصفحات من المفكرة التي يدون فيها جون يومياته ومواعيده..
أخذهما هذا الأخير فاتحا عينيه على اتساعهما .. تمشى الى طاولة الكتابة واخرج مفكرته الأصلية فجعل المفكرة الأصلية بيد ونسختها باليد الأخرى واقترب من المصباح .. فتح الصفحات المصورة ، كانت مفكرته الأصلية جديدة إلا انها كانت تبدو في الصور عتيقة صفراء متهرئة ومجعدة إلا انها كانت نسخة طبق الاصل !! . راحت نظراته تتنقل بين الأصل و الصورة ، استمر لفترة طويلة ، غير مصدقا ما تراه عيناه ، وكان يرتعد بشدة ، ثم صاح أخيرا بتعجب وريبة :
ـ ولكن كيف ؟
رفع عينيه الى مارك وقال بعصبية :
ـ انظر الي جيدا ، هل يبدو بأنني مجنون ؟
هز مارك رأسه نفيا وقال :
ـ انه مجرد ايضاح يا جون لكي تصدقني ، ويمكنك ان تعتبره دليلا ساطعا على صدقي ، وعلى انني اتيت لمساعدتك .
تمشى جون بتثاقل نحو الدولاب وصبَّ لنفسه كأسا من الشراب ، ارتطم عنق الزجاجة بالكأس نظرا للأضطراب الذي كان يشعر به ، افرغ الكأس في جوفه بسرعة وعصبية .. وعيناه المفتوحتان تحدقان بمارك ، فقال مارك مستطردا :
ـ كما ترى، انني اقول الحقيقة، لقد عدت الى الماضي مائة وسبعة وثلاثين عاما، لكي امد لك يد العون
نشر صورا فوتوغرافية اخرى على المنضدة وهو يقول:
ـ بما انك احد اجدادي الذين يبشرون بالنجاح ، وحيث انك مخترع عظيم وتتمتع بعقلية أبداعية نيرة لذا قررت ان اقدم لك العون، ليس من باب الأيثار، انا اعترف بذلك ولكن لسبب آخر، وهو انك كونّت ثروة معتدلة من عائدات مخترعاتك، ولكنها لم تكن كافية لكي تصل الى عصري ليصيبني منها شئ يذكر، فلو انك كنت قد صنعت ثروة حقيقية وضخمة .. هل انت مصغ لي؟
ـ نعم .. استمر
استمر مارك بحديثه :
ـ.لكنتَ اكثر غنى مما انت عليه الآن ولكانت ثروتك قد وصلت الى عهدي.. واليك بعض الطرق التي ستجعلك تفعل ذلك ..
قدم له مارك بعض الصور والصحف القديمة والمقالات المنشورة في صحف ومجلات علمية وبدأ يشرح له قائلا :
ـ هذه نسخ من مقالات نشرت في الصحف التقنية العلمية في الاعوام 1997 و2014 و2029 وجميعها تتحدث بالتفصيل عن المحرك الأيوني للمركبات الفضائية التي ستسهل عملية السفر الى الكواكب البعيدة وعن المجالات المضادة للجاذبية والتي يمكن بواسطتها الأقلاع من سطح الأرض بيسر وسهولة دون الحاجة الى الوقود التقليدي ، وعن الدروع الألكترونية التي ستستعمل في مجالات عديدة، وسأترك هذا امامك لكي تقوم بدراسة تفصيلها ومن ثم تقوم بتنفيذها وتسجيل براءات اختراعها باسمك وتقديمها للعالم في هذا الزمن أي في العام 1958 وبذلك ستسبق مخترعيها بعشرات السنين .
صمت مارك برهة ثم اضاف:
ـ اما بخصوص التمويل فهناك طرق و وسائل بسيطة يمكنك ان تعتمد عليها في الحصول على المبالغ اللازمة لتنفيذ مشاريع الأختراعات فلقد حصلت لك على بعض الصحف التي صدرت في اليوم الذي يلي يومك هذا أي يوم غدا ويوم بعد غد واليوم الذي بعده و بعض الصحف التي ستصدر في الأسبوع القادم وصحف ستصدر في الأسابيع القادمة ، وهاك بعضها .
ثم اخرج صحفا اخرى وقدمها له قائلا :
ـ هذه ايضا صحف ستصدر في الأشهر والسنين القادمة
قاطعه جون
ـ وماذا سأفعل بكل هذه الصحف ؟
وبدأ مارك يشرح له بحماس ملحوظ
ـ من خلال مطالعتك للصحف التي ستصدر في المستقبل ــ وطبعا انها لم تصدر بعد بالنسبة لوقتكم الحالي ــ ستتعرف من خلالها على المضاربات المالية التي ستحقق ربحا وعلى المشاريع التي يمكن ان تدر عليك ارباحا أكيدة و وفيرة ، أي انك ستعرف المستقبل القريب من خلالها ، وهناك ايضا خارطة منشورة في احد اعداد هذه الصحف تبين موقع احد مناجم اليورانيوم والذي لن يتم اكتشافه قبل العام 1988 .. ولا شئ سيمنع من ان يكون مكتشفه هو انت و..
فقاطعه جون وقد استشاط غيضا من هذا الهراء
ـ كفى . كفى لقد سمحت لك بان تسمعني ما يكفي من هذا الهراء
ونهض متجها الى الباب ففتحه وهو يقول لمارك بصوت ملؤه الغضب:ـ
ـ هذا مستحيل ..انه جنون ! اي نوع من المخلوقات انت؟ ومن تكون؟ هل انت نوع من الشياطين؟ ام المعتوهين؟ .. هيا ، اخرج حالا و إلا..
رفع مارك يده ليهدئ من روع جون
ـ مهلا يا جون . انـتظر لحظة ..
صاح جون وقد صار وجهه بلون الرماد
ـ اتريد ان تقنعني بهذا الدجل؟ انه نوع من الدجل، فما انت إلا دجال فكل ماذكرته لا يمت الى الحقيقة بأية صلة تذكر، وانا اعرف ماهي لعبتك بالضبط ايها الأحمق المعتوه لأنني امتلك عقلا سليما ملعونا يجعلني اغلق عليك هنا ومن ثم ..
لم ينتظر مارك لما تبقى من كلمات جون وانما ركز جل اهتمامه على العبارة الأخيرة التي اخذت تتردد في ذهنه كالمطرقة أغلق عليك ..اغلق عليك والمركبة ستعود في الحادية عشرة عندها قفز مارك من مكانه كالمجنون واتجه الى جون و راح الشرر يتطاير من عينيه وهو يقول بلهجة شديدة التحذير
ـ ابتعد..عن..هذا..الباب..يا جون ودعني اغادر هذا المكان..
وزيادة في تخويف جون من اجل ان يفسح له مجالا للخروج سحب مسدسه مهددا ، ولكن في هذه اللحظة تجمد جون في مكانه عند رؤيته للمسدس فقال مارك :
ـ اغلق الباب جيدا يا جون
اطاع جون الأمر وأغلق الباب .
فعاد مارك يقول
والآن اقترب الى هنا
تحرك جون بحذر في الغرفة حتى وصل قرب دولاب المشروبات فهبَّ بحركة سريعة ومفاجئة لم يدرك مارك بعدها إلا وأحدى زجاجات الشراب الضخمة تنطلق متقلبة بسرعة كبيرة في الهواء متجهة نحو رأسه..إلا انه تفاداها في اللحظة المناسبة فمرت قرب رأسه وأصطدمت بالجدار متهشمة الى قطع صغيرة من الزجاج المخلوط بالشراب ، بعدها لم ير إلا و جون فالون قد إنْقَّضَّ عليه قابضا بيده على المسدس فأندفع الأثنان بعنف وهما متشابكان بالأيدي وارتطما بالمنضدة ، سقط المصباح الموضوع فوقها على الأرض متحطما ، فغرقت الغرفة بظلام دامس . كان مارك اضخم حجما كما ان نوبة الأنفعال التي انتابته ضاعفت من قوته وبينما هم على هذه الحال وَمَضَت كتلة لهبٍ لطلق ناري دوى صوته في ارجاء الطابق الثالث عندها ارتخى جسم جون وسقط على ارض الغرفة عند قدمي مارك ثم هدأت حركته والى الأبد.
****
وضع مارك المسدس في جيبه ومشى متلمسا طريقه نحو المنضدة وقد غرقت عيناه بالعرق ، فتش جيوبه فوجد اخيرا مصباحه اليدوي ، وعندما اناره صرخ بفزع
ـ ياالهي !!
تفحص الجسم الملقى على الأرض ..كانت العينان جاحظتين وجامدتين في محجريهما وصاحبهما جثة هامدة ..اذن .. فأن فالون الجد قد مات

***
نهض مارك وفرائصه ترتعد رعبا ، فطبقا لما جاء في المفكرة، ان جون فالون قد تزوج في الخامسة والثلاثين من عمره وقد جاء طفله الأول بعد عامين من الزواج ..! ولكنه قد مات الآن ولم يبلغ من العمر اكثر من اثنين وعشرين عاما .. ولم يتزوج بعد !؟
سمع مارك اصواتا في الخارج .. فركز انتباهه وجمع شتات فكره .. وأخيرا نهض واحكم اغلاق الباب ثم فتح النافذة حيث يوجد سلم الحريق المتعرج في الجهة الخلفية للبناية .وما هي إلا دقائق حتى عاد الى المكان الذي ترك فيه المركبة الزمنية.
كان الرجل الذي قتله مارك على الطريق مايزال ملقى على اسفلت الشارع وقد استترت معالمه في الظلمة ، لم يكن يتخيل ما سيرتكبه من الفضاعة ، انه شئ فضيع لقد قتل رجلين في اقل من ساعة.. والأسوأ من كل هذا ان احدهما هو جده . قتل قبل ان يصبح أب لأحد !!
ونظريا.. فان هذا يعني .. ولكن ..ماذا يعني ذلك ؟ هل يعني ان مارك لم ولن يولد ، قط ؟؟
فكَّر مارك بالمركبة .. وكان متأكدا بأنه لن يجدها ولن تعود ابدا بعد الأمر الذي أرتكبه ..انتظر..و انتظر .. وكم كان انتظاره قاتلا..كان بدنه يرتعش خوفا وفزعا من فعلته الشنيعة التي بدأ يتكهن بنتائجها الوخيمة .وأخيرا.ظهرت المركبة في الموعد المحدد.وفي الحال قفز اليها غير مصدق عينيه،وبلهفة شديدة تسلق سُلَّمَها هاربا من هذا العالم ، فأنطلق بها الى الأعلى حتى وصل الى الفضاء الخارجي ، عندها ادار مفتاح الزمن وما هي إلا لحظات حتى عاد أخيرا الى زمنه الأصلي. العام 2095 للميلاد.
وفي غضون دقائق كان الضوء الأصفر للمختبر يغمره بنوره من جديد. أخذ نفسا عميقا وزَفَرَ بأرتياح بالغ، خرج من المركبة ونظر حوله في المكان الذي تعود قضاء معظم وقته فيه غير مصدق بعودته اليه ، وكأنه قد استيقظ من كابوس مرعب.
ولكن ..مهلاً..فقد استوقفه شئ غريب ، شئ ما ، يبدو له غير طبيعي .. فهل دخل احد الى هنا خلال فترة غيابه ؟ لأنه احس بأن الأشياء الموجودة في المختبر قد تغير بها شئ ما ! .ومع انه لم يستطع ان يضع يده على نوع ذلك التغيير في الحال إلا انه استطاع ان يكتشفه بالأخير عندما جال قليلا في المكان للبحث عن الرفوف الجديدة التي ثبتها بنفسه على الحائط في الأسبوع المنصرم. انها غير موجودة !؟ ولكن توجد في مكانها ركائز تحمل حاويات صندوقية لحفظ الأدوات ..ومثقب غريب ، أما المثقب الذي لديه والذي ابتاعه منذ اشهر وثبته في مكان خاص في المختبر فقد اختفى من مكانه ..ترى ما الذي حصل؟
تداخله خوف وقلق شديدين وشعر بقشعريرة موجعة تسري في بدنه..أطفأ الأنوار، وقطع التيار الكهربائي عن المختبر وخرج ماشيا الى حيث رَكَنَ سيارته الحوامة ، إلا انها هي الأخرى لم تكن موجودة أيضا في المكان الذي تركها فيه حتى انه لم يجد لها آثرا على الأرض.
ازدادت ضربات قلبه سرعة وعنفا ، حتى خيل اليه بأنه يسمعها بوضوح ، غادر المكان كالمجنون ، حث قدميه على المسير بسرعة متوجها الى بيته ، فلا يفصله عن المنزل اكثر من كيلومترٍ واحد ، لقد خيل له بأن المسافة صارت اطول بكثير ، ولكن عندما وصل الى منزله .اصبحت ضربات قلبه اشد عنفا وكاد قلبه ان يخرج من جوفه عندما رأى المنزل ..آه ..انه نفس المنزل الذي تركه قبل ساعتين ..إلا ان طلاءه كان بلون مختلف ، وله تعريشة معدنية غريبة على جانبيه و تسلقت عليها نباتات اللبلاب ، لابد انها زرعت قبل سنتين على الأقل كما يبدو لكي تكون بهذه الكثافة والأرتفاع ..ثم انه لم يكن يألف هذا النبات في حديقة منزله ، تردد قليلا قبل ان يقترب من البوابة الخارجية لمنزله ، ترى هل طرأ أي تغيير على زوجته الحبيبة ريــا ايضا ؟
حاول فتح الباب، ولكن دون جدوى فالقفل قد تغير ايضا والمفتاح الذي يحمله لا ينفذ في فتحة القفل، وحينما كان يحاول ادخال المفتاح جاهدا فُتح الباب وظهرت سيدة شقراء لم يرها من قبل وهي تنظر اليه بغضب واحتجاج على وقاحته التي يحاول بها اقتحام منازل الآخرين ..فقالت له مستنكرة :
ـ ماذا تفعل يا هذا؟ من انت؟
فأجاب متلعثما
ـ هـ هل ..هل السيدة فالون تسكن هنا؟
ـ من تكون السيدة فالون؟ لا يوجد احد بهذا الأسم ..
أ..أنا ..آسف..فلقد انتقلتُ الى هذا الحي توا، ويبدو انني اخطأت العنوان.
كان يشعر بأن السيدة تراقبه بريبة وهو يبتعد عن منزلها، وبالفعل فهي لم تغلق الباب حتى تأكدت من رؤيته يختفي حول منعطف الشارع مولياً الأدبار.

***

ابتعد مارك عن الشارع الذي يقع فيه بيته حتى اجتاز زقاقين واتجه الى مرآب وقوف السيارات، وأخيرا، هذا هو المرآب، انه يبدو مألوفا لديه جدا كما تعود ان يراه كل يوم، ولا يظهر عليه اي تغيير.
عندما نظر الى المكان الذي اعتاد ان يركن سيارته اليه شاهد مكانها سيارة اخرى ، وفي مكتب مراقب المرآب جلس المراقب توم برايان فأتجه مارك اليه مباشرة، فتح باب المكتب ودخل محييا توم
ـ مرحبا توم ..كيف حالك اليوم؟
نظر هذا اليه بأستغراب فأجابه ببرود وهو يتفحص هيأته من الأعلى الى الأسفل:
ـ أهلا ! هل أعرفك!؟
ـ ألا تتذكرني ياتوم ؟ انا مارك ..مارك فالون.
رفع توم حاجبيه بأستغراب اكثر وهو يحاول ان يتذكر محدثه ولكن عبثا، فهو يراه لأول مرة ، ثم قال :
ـ استميحك العذر فلا أستطيع ان اتذكرك بالضبط، ولا اعتقد انني قد شاهدتك من قبل، وعلى أية حال فأنني أرى كل يوم الكثير من الناس، هل استطيع ان اقدم لك اية خدمة ياسيد جاك ؟
اجب مارك مصححا:
ـ مارك ،مارك فالون، هل سيارتي موجودة لديكم؟ انها ذات لون ازرق وسقف ابيض ، موديل كيسارك 93
تردد مارك في الحديث عندما لاحظ تقطيبة عميقة تعلو حاجبي الرجل فأستطرد يقول :
ـ اظن ان زوجتي قد تركتها في مرآبكم.
فقال توم :
ـ آسف يا سيد فارون، اذهب الى مرآب جيانتس لوقوف السيارات انه امامنا بثلاثة شوارع .. لعل سيارتك هناك اما بالنسبة لنا فلا اعتقد انني رأيت سيارة كهذه عندنا .
كان مارك سعيدا لحصوله على بصيص من الأمل، فأخذت دماءه تتدفق في عروقه من جديد ..يا الهي .. كان هذا هو عالمه، مدينته التي يعيش فيها منذ سنين عديدة، والآن يبدو وكأنه لم يكن يوما هنا على الأطلاق، كأنه رجل ليس له وجود.
وجد نفسه أخيرا امام هاتف عمومي تلفزيوني فدخل الى الحجرة وتناول الدليل بلهفة وراح يقلب اوراقه بسرعة ، ولكن اسمه غير موجود، ولا حتى اسماء اخوانه، فتحول الى دليل آخر يغطي ارقام هواتف المنطقة الواقعة عبر النهر حيث يقيم والداه.
كانت الكلمات تتموج وتتراقص على الصفحات امام عينيه ، أشعل لنفسه سيكارة بيدين مرتعشتين قبل ان يحاول البحث عن اسماء والديه، وعندما لم يجد اسميهما مسح بنظره اعمدة الأسماء على صفحات الدليل بجنون من الأعلى الى الأسفل وبالعكس وقد أخذت تبدو امامه مرة مشوهة ومرة واضحة.
خرج من غرفة الهاتف ونظر عبر الشارع الى العالم الذي لا مكان له فيه، نظر الى عمود مصباح الشارع وهو يرمي بضيائه على اغصان الأشجار القريبة، انه صلب بما يكفي ليؤكد نفسه ووجوده انه مادي وحقيقي، الشارع، المنازل، السيارات الحوامة المركونة، الناس الذين يعرفهم، جيرانه، اصدقائه واصدقاء طفولته، حتى ريا اينما كانت الآن، كل هؤلاء كانوا يعيشون سوية، أما هو فغريب عنهم جميعا الآن انه الآن شبح قادم من اللامكان واللازمان، اصدقاء دراسته بيتر ، بيتر باركلي انه الصديق الذي يعرفه اكثر من أي شخص آخر انهم معا منذ ايام الدراسة مرورا بالجامعة وحتى بلوغهم سن الرشد .
عاد يبحث في صفحات الدليل
ـ باركلي ، باركلي هاهو بيتر.أي.باركلي
ضرب الرقم على ازرار الهاتف المرئي، ركل باب حجرة الهاتف بقدمه ليفتحه قليلا حتى يندفع بعض الهواء البارد الى وجهه من الخارج .
أحس بقطرات العرق على جبهته كأنها حبات من الثلج ..وأخيرا ظهر باركلي على شاشة الهاتف المرئي ، لم يكن يبدو عليه انه تعرف على مارك فبادر مارك بالحديث :
ـ بيتر، انا مارك فالون حتما انك تتذكرني، نحن أصدقاءالدراسة يا بيترلقد عرفتني أليس كذلك؟
اجاب بيتر:
ـ لا استطيع القول بأنني عرفتك تماما، ربما انك تغيرت كثيرا منذ تلك الأيام الى الدرجة التي لم أعد اعرفك فيها ..و..
ـ سأذكِّرُك يابــيتر لقد كنتُ معتادا في ذلك الوقت ان اتمشى مع فتاة اسمها ريا والتون.  رفع بيترعينيه الى الأعلى محاولا التذكر
ـ ريا والتون؟ آه بالتأكيد انني اتذكرها جيدا .. انها متزوجة الآن كما تعرف ،تزوجت شابا اسمه ولسون أو وليامز أو شي كهذا لا أذكر بالضبط..
خرج مارك من حجرة الهاتف وهو مشدوه، وراح يهيم على وجهه في الشوارع على غير هدى..كان يمشي كالآلة، احيانا كان يمر بقربه بعض المستطرقين ، ولكن عندما كان بعضهم ينظر في وجهه لم يكن يبدو على وجوههم اية لمحة تنم عن معرفتهم به، رغم انه كان يعرفهم تمام المعرفة أو يعرف معظمهم ان لم يكونوا كلهم يبدو ان هذا الأمر هو نفسه في اي مكان يذهب، وهذا يعني انه بعد تلك الحادثة ، لم يولد جده ولا أبوه ولا هو ، بسبب وفاة جده الثالث جون فالون..ولكن..لماذا لا يعود بواسطة مركبة الزمن الى ذلك التأريخ مرة أخرى ويمنع الفعلة الشنيعة التي فعلها من ان تقع ، وبذلك لا يحصل هذا التغيير في الأحداث ؟ جرى الى المختبر كالمجنون قبل ان تختمر الفكرة في رأسه، انها فكرة تافهة ببساطتها، فكل ما عليه ان يفعله هو العودة الى نفس الليلة من العام 1958 ولكن، قبل لحظة وصوله أول مرة ، ويمنع نفسه من رؤية جون الثالث.
تنفس بعمق وهو يدخل مركبته الزمنية وفي داخله تولد أمل جديد بالنجاة من هذا الكابوس ، أخيرا سيعود كل شئ كما كان عليه. ولتذهب الثروة الى الجحيم!
فمجرد محاولتك تغيير أحداث الماضي ، ستجد نفسك بلا ماضي وبلا مستقبل وحتى بدون أدنى فكرة عن النهاية التي سيقودك اليها ذلك التغيير، تغيير الأحداث في الزمن الماضي .
عليه ان يوقف نفسه اي يوقف مارك الذي ذهب أول مرة ،ويشرح له الأمر ثم يعود وسيبقى العالم على حاله كما كان أول مرة .
نظم الاحداثيات على نفس النقطة من المكان أما وقت الظهور فقد نظمه على الساعة التاسعة ، أي قبل عشرون دقيقة من الموعد السابق حين ذهب أول مرة، فحص كل شئ بدقة متناهية مرة، مرتين، ثلاث، وبعدما صار مستعدا ضغط على الأزرار، وبدأت الطاقة بالتدفق عبر الأسلاك والملفات ثم أدار المفتاح الذي يشغل اجهزة ارجاع الزمن فعمل الجهاز في الحال .
أحس مارك مرة أخرى بتقلصات وقوى تضغطه وتسحبه بسبب تأثير مجال التشوه الزمني، حام بالكبسولة فوق نفس المنطقة المظلمة الخالية التي هبط بها سابقا او بالأحرى ، حيث قام بهبوطه الأول والذي كان في الساعة التاسعة وعشرين دقيقة، أما الآن فهي التاسعة مساءا اذن فهو سيصل مرة أخرى بعد عشرين دقيقة أيضاً وسيكون بأنتظار نفسه.
نظم وقت عودة المركبة على الساعة العاشرة إلا عشر دقائق ثم قفز الى الخارج ، وجرى عابرا الى المنطقة المظلمة الكثيفة الأشجار ،أختفت المركبة من مكانها حالا عائدة عبر الزمن حسب ماهو مخطط لها ، اختبأ بين الأشجار مترقبا، نظر الى ساعته، كانت الليلة نفسها حين كان هنا في المرة الأولى. نظر حوله وتحسس المسدس الموجود في احد جيوبه، كان عليه ان ينتبه لظهور الرجل اليه من بين الأشجار والذي اعترضه اول مرة ،ولكنه لم ير أحدا حوله ماعدا القطار الذي مرَّ يهدر بعرباته وعجلاته الحديدية ونوافذه المضاءة بنور أصفر باهت.
بعد ذلك لمح من طرف عينه شئ آخر هذه المرة ، شاهد المركبة وهي تتلاشى من المكان مرة أخرى، لقد ظهرت المركبة وأختفت في نفس الوقت الذي كان فيه مارك يفتش عن الشجيرات، سمع وقع اقدام مسرعة لشخص يركض، راقب الرجل القادم حتى أقترب وصار قريبا منه ..
ـ إنــه.هو.مارك !
خرج مارك من بين الأشجار وبيده مسدسه معترضا الرجل الذي يركض وصاح عليه :
ـ ـ هَيْ .. انت .. توقف
استدار الرجل المسرع لينظر اليه ، وهو متوتر الأعصاب ومنهمك في ركضه ،سقط بعض الضوء على وجهه ، فوجد مارك بأنه ينظر الى نفسه. وهو قادم لملاقاة جده ..ولكن الآخر لم يستطع ان يتبين من الذي صاح به ليوقفه بسبب الظلام .
وبصعوبة استطاع ان يميز الخوف الذي بدا في عينيه ولكنه مارك ـ القادم ـ خفف قليلا من سرعة جريه عندما وصل الى مارك الخارج له من بين الاشجار والذي لم تكن معالمه واضحة بسبب الظلام. سحب مارك ـ القادم ـ هو الآخر مسدسه وصوبه الى صدر مارك الخارج من بين الأشجار، وأطلق النار، طلقة واخرى .. حاول مارك ان يصرخ عندما اخترقت الرصاصتين صدره وكتفه.كالمطارق. ولكن عبثا .التفًّ حول نفسه .وتهاوى مرتطما بالأرض جثة هامدة وهو يحاول ان يغرس اصابعه في اسفلت الشارع.
وبرؤية مشوهة ضبابية طغى عليها اللون الأحمر ..رأى مارك وهو ملقى على الأرض قاتله ،بينما راح الضوء والظل المنتشرين في الشارع يتناوبان السقوط عليه وهو يعدو تحت مصابيح النور ، وظل يركض حتى اختفى في الظلمة.
ولم يعد مارك الساقط على الأرض يستطيع ان يبصر شيئا بعد ذلك ، فلقد كان الدم المتدفق منه ، ساخنا ومالحا في فمه.

***
انتهت


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق