الأربعاء، 10 أغسطس 2016

روائح و ذكريات


روائح و ذكريات



يخيل إليّ بان الجذر اللغوي لمفهوم كلمة الرائحة قد اتت به العرب من كلمة الروح لأن الرائحة عند تنشقها تهيج في أرواحنا و في دواخلنا احاسيس مختلفة و مشاعر متباينة و كأنها تتعلق بالروح و بالذاكرة بعضها يبهج و بعضها يؤلم.
من منا لم تعلق بأنفه و ذاكرته رائحة الحقيبة المدرسية ؟
بالتأكيد انكم الآن قد عدتم بذاكراتكم عشرات السنين الى الوراء و بدأتم الرحلة الجميلة، كل حسب رؤيته.
لقد كانت تلك الرائحة اللطيفة كوكتيلا رائعا من الروائح المتنوعة التي علقت في أجمل زوايا الذاكرة، رائحة الكتب و الدفاتر الجديدة التي توزع علينا بداية العام الدراسي و هي جديدة زاهية فندشنها بأيدينا و أما الدفاتر المدرسية الاضافية و الأقلام التي يتسوقها لنا الأهل من سوق السراي فقد صارت ظاهرة مألوفة لكل العراقيين بداية كل عام دراسي لنعمر بها حقائب الاطفال وهم فرحين ببداية العام الدراسي الجديد، رائحة أقلام الرصاص، الأقلام التي أنا شخصيا أعشقها ولا تفارقني حتى اليوم، رائحة الممحاة البيضاء و رائحة المحّايات الملونة الشبيهة بالعلكة، رائحة الجلد الصناعي الذي صنعت منه الحقيبة المدرسية، و يضاف لهذا الكوكتيل اللذيذ من الروائح رائحة التفاحة و الموزة و الساندويجة التي تدسها لنا الأم الطيبة حتى اذا ما اخرجناها بعد ان يقرص الجوع أمعائنا الصغيرة لنأكلها في وقت الفرصة بين الدروس فسنجد فيها ان الرائحة الغالبة هي رائحة الحنان التي اودعتها الأم في حقيبتنا لتصبيرنا في رحلتنا اليومية الصغيرة.
ولرائحة المدرسة و الصف و الحانوت الذي يبيع الببسي و الفلافل و السميط و الجبس و النستلة حصة لا يمكن اغفالها في هذا العبق المدرسي. روائح كثيرة مختلفة كلها تذكرنا بأجواء و أيام وذكريات ومواقف مفرحة و حلوة و كريهة ومؤلمة كل رائحة في هذه الفترة من العمر التي تبدأ بها الشخصية بالتبلور والبناء تكون لها ميزتها واهميتها و روابطها الوشيجة، رائحة الكتاب رائحة الكرة رائحة البدلة الجديدة رائحة الحذاء الجديد رائحة اللعبة المعدنية الجديدة كم كنت احبها رائحة المكتبة العامة رائحة غرفة مدير المدرسة المليئة بالرهبة والاحترام و التبغ والطباشير، رائحة غرفة مختبر العلوم التي ندرس فيها بعض التجارب الفيزيائية و الكيميائية الصغيرة و التي كانت في نظرنا لا تقل خطورة عن وكالة ناسا، أما رائحة غرفة المرسم فقد كانت هذه الغرفة تمثل لي مدينة الأحلام السحرية و ستوديوهات ديزني و ربما متحف اللوفر، فيه كانت تعلق لوحات التلاميذ الموهوبين الذين استحقت لوحاتهم ان تحتل لها مكانا على جدرانه و دائما كنت أفخر بأن لي لوحة بقيت راسخة هناك حتى بعد ان تخرجت من مدرستي الابتدائية و اجتزتها بمراحل و كنت احب ان تداعب انفي رائحة الألوان الزيتية المنتشرة في تلك الغرفة و رائحة أصابع الباستيل و رائحة الكيروسين الذي تغطس فيه فرش الرسم الزيتي فلم يكونوا يستخدمون التربنتين كمحلول اذابة للالوان الزيتية لأرتفاع سعره و رخص سعر الكيروسين، و كذلك رائحة ورق الرسم و دفاتره و ورق الآبرو الملون الجميل و كم كنت اتمنى ان تكون حصة الرسم حصة يومية في المنهج الدراسي و ان تكون اطول الحصص فمازالت رائحة مواد الرسم و اللوحات و القرطاسية تسحرني و تشدني اليها بقوة.
في نهاية اليوم المدرسي نخرج بعد الظهر لنخترق جموع التلاميذ الغفيرة من أقراننا الذين ينتظرون انصرافنا لكي يحتلوا محلنا فيبدأون دوامهم الظهري لأن بناية المدرسة تخدم مدرستين ككل المدارس العراقية في المناطق المكتضة بالسكان. كانت تداهمنا و نحن نشق طريقنا الى البيت بين تلك الجموع روائح أخرى مثيرة و مسيلة للعاب بالنسبة لشياطين صغار مثلنا لم تسد الساندويجة والتفاحة جوعهم بما يكفي خصوصا بعد ان حرقوها في بطونهم بسهولة بالركض و اللعب و التنطط هنا وهناك بكل ما للطفولة من حب للعب واللهو.
روائح بعضها لذيذ و بعضها مقرف تختلط مع بعض حسب المكان و المنطقة و المحلة من محلات بغداد التي تقع فيها المدرسة، رائحة اللبلبي، الفلافل، العنبة، البالوته، الدوندرمة، الحلاوة الدهينية، السمسمية، شربت النومي بصرة و الزبيب و البرتقال و انواع الشرابت الملونة الجذابة فهل نستطيع ان نصمد امام هذه الروائح اللذيذة و نحن جياع؟ لا و ألف لا فهذه مسألة مبدأ بالنسبة لنا فكيف نمر بها مرور الكرام، و بالرغم من ارشادات المعلمين كل يوم و توصيات الأهل وتوسلاتهم و تخويفنا بأخطر الأمراض اولها الكوليرا و آخرها القولنج اذا ما أكلنا او شربنا شيئا من الباعة المتجولين، تجدنا نتزاحم على عرباتهم كما يتزاحم النمل على قطعة حلوى غنية بالسكر و الشكولاته نمد أذرعنا الناعمة بآخر ما تبقى من مصروفنا اليومي لكي نقوم بتصفير جيوبنا قبل عودتنا لبيوتنا، و بالطبع كان اهم المواقع حول عربة البائع المتجول الذي نتحلق حوله بشغف هو فوق احدى العجلات لكي نرتفع بأعناقنا و يتسنى لنا مشاهد ما يوجد من آيكونات فوق دسك توب عربة بائع اللبلبي او الدوندرمة.
إلا ان اجمل و ألذ ما كان يداعب نهايات اعصابنا الشمية بلا منازع هو طبيخ ست الحبايب عندما ندخل الى البيت و نحذف على عجل بحقائبنا المدرسية و ملابسنا هنا و هناك و نتراكض لارتداء ملابس البيت لنلتهم ما تقدمه لنا الوالدة الحنون وسط موجه من الاحتجاجات التي نحرق بها الأجواء ضد الطعام اذا كان طبق ذلك اليوم من الاصناف التي لا نحبها. ولكننا بالاخير نأكلها حتى آخر حبة رز.
كبرنا و تنقلنا في مراحل الدراسة و العمر في الحياة و صارت الروائح التي كانت تؤنسنا في زمن الطفولة تشكل لنا مجرد ذكريات جميلة و حلوة تذكرنا بتلك الفترة الطفولية التي رحلت بلا رجعة و حلت محلها روائح اخرى جديدة و مختلفة بعضها يثير في داخلنا الحنين لأن انفنا قد تحسس في المكان عطرا باريسا ذكرنا بالحب الأول او نسمة محملة بشذى الزهور اعاد الى اذهاننا الجو الصيفي الذي شهد أول لقاء و أول دقة قلب، و بعضها يهيج في داخلنا الوجوم لأنه يذكرنا بفراق الحبيبة أو الحبيب او بمشكلة من مشاكل المحبين أو بسوء فهم انتهى بزواجها من ابن العم او من عريس لقطة. و بعضها دائما جميلا منعشا كرائحة المطر في مستهله عندما يتصاعد عبيق الارض الجافة و عطر النباتات و الأعشاب العطشى و رائحة الحقول التي أرهقها القيض بعد صيف لاهب فتعطينا هذه الرائحة أملا جديدا بالحياة و تعلقا بأمنا الأرض و تلفت انظارنا الى ما يجنيه الانسان بيديه بحق الطبيعة الجميلة التي وهبته كل شئ و هو يجحدها.
روائح أخرى تثير في انفسنا الخشوع و الطمأنينة و السكينة، روائح البخور و زيت وماء الورد عندما نتنشقها فتذكرنا بمراقد الأئمة والشيوخ الزاهدين و الأولياء الصالحين و بأجواء المساجد و أجواء الكنائس وآحادها عندما يوقد البخور و توقد شموع النذور للسيدة العذراء على ايادي البنات المسلمات والمسيحيات.
لا ننسى رائحة الشاي العراقي في الصباح عندما يختلط برائحة القيمر والصمون الحار، لن تشرب الشاي إلا وانت تستنشق رائحته قبل ان تتذوقه فأن لم تجدها فأنه مجرد قنداغ لا يمت بصلة لهذا الشراب المؤنس.
روائح عراقية جميلة تهيج في دواخلنا ذكريات أجمل لترتبط بأماكن و تواريخ و أصوات مألوفة صارت مفردات جميلة في حياة كل عراقي، فلا تتنشق رائحة الشاي الذي تخدر جيدا إلا و تؤنسك مع ارتشافه هلاهل استكاناته و صحونه و ملاعقه و لا تتنشق رائحة السمك المسكوف إلا و تستعذب معه رائحة شواطئ دجلة و اغاني المقام العراقي و أنوار عبد الوهاب و زهور حسين و حفيف الاشجار في ليالي شارع أبي نؤاس و اضوائه الملونة و انعكاساتها على مياه دجلة الهادئة و لن تعجبك رائحة النركيلة و انفاسها إلا اذا كنت قد تناولت قبلها عشاءا دسما من الباجه و الطرشي او الكباب و التكة و ظلوع الضأن و يحيط بك ضجيج المقهى و ضحكات الاصدقاء و مزاحهم و دردشاتهم العالية.
تتنقل بنا الروائح و العطور و النسمات من الشذى الجميل و الطفولي و الحالم الى روائح ايام الشباب الذي ضاع بين رائحة البارود و دخان عوادم شاحنات الأيفا و الدبابات و دخان المدافع الى عبق تراب الأرض في كل ضربة معول و مجرفة لنستخرج بهما التراب من بطن حفرة في الارض حفرناها لنلتجئ بها من القصف المدفعي المعادي او لتنغلق مناخرنا بتراب ثقيل لمعركة حامية نخوضها فاذا نجونا منها ستنتهي حتما بتنشق رائحة فحم المناقل المتصاعدة مع رائحة القهوة العربية في مجلس الفاتحة على روح الشهيد فنتذكره و نتذكر اوسم شبابنا الذين ضحوا بأنفسهم لكي يتنشق اطفالنا القادمون رائحة الحقائب و الكتب و أقلام الرصاص ولكي تضع الأمهات لهم تصبيرة الطعام الهني.
فنبكي الذين رحلوا من أجلهم وأجلنا بحرقة.
و هكذا و بعد تلك الرحلة العطرة الطويلة التي تعودت فيها حاسة الشم العراقية على العبق و العطور و الدخان لم تبق اليوم إلا رائحة واحدة تثير في القلب اجمل ذكرى و تبقى هي الرائحة الأحلى.. التي تترقبها كل أحاسيسنا و مشاعرنا و حواسنا الخمسة بلهفة و اشتياق علّنا سنتنفسها من جديد ..
انها رائحة السلام.

اغلفة لي في مجلة المسيرة من اوائل الثمانينات



من المواضيع التي كتبتها لمجلة المسيرة ورسمت لها الاغلفة بنفسي
رغم ان عملي السابق في صحافة الاطفال خلال السبعينات ومطلع الثمانينات كان في الكتابة في مجال العلوم وخصوصا علوم الفلك والفضاء و قصة الخيال العلمي
الا انني احيانا ازاغل واتجاوز على اختصاص القسم الفني في جريدتنا العزيزة ايام السبعينات والثمانينات " جريدة المسيرة" للطلائع والتي كانت تضم نخبة من الفنانين الرائعين والكتاب وانا منهم  واليوم هم فنانون كبار كالمصم الدكتور خالد النعيمي والاستاذ ميسر القاضلي والرسامين الرائعين كالاخ الفنان رضا حسن والاخ الفنان فاضل طعمة ومعهم ايضا اخي وصديقي وابن منطقتي الرائع الفنان محي خليفة ..وكنت احيانا اخرح عن اختصاصي في الكتابة واحاول ان اساهم ببعض الرسوم للجريدة لكوني هاوي رسم ولست محترفا اي فنانا فطريا ولست كما كان اصدقائي الفنانون المبدعون ولكنني ارسم حبا بفن الرسم والالوان لأنه كان ثاني هواية لي بعد القراءة ايام الابتدائية ومن ضمن محاولاتي المحدودة في الرسم للاطفال رسمت بعض الاغلفة لمجلة المسيرة وكنت قد نسيتها وقد ارسل لي مشكورا صديقي الفنان الرائع محي خلفة هذين الغلافين الذين رسمتهما عام 1980 و1981 بعد ان ذكّرني بهما و وعدني بارسالهما وهاهو اليوم يبر بوعده مشكورا وهو يحتفظ بهما في ارشيفه الفني وقد اسعدني اليوم ايما سعادة بارسالهما لي و تذكيري بتلك الايام الجميلة.
ثم اعقبهم بغلاف آخر بعد بضعة ايام
شكرا اخي العزيز محي خليفة.