السبت، 30 مايو 2020

شئ من الخوف في الباب الشرقي
بقلم: صالح حبيب

في منتصف التسعينات عندما ازدهرت تجارة الخردة والمواد المستعملة على أرصفة الشوارع والساحات، وكان من الممتع أيام الجمع التجول بين الباعة في ما يعرف (بسوق الحرامية في الباب الشرقي)..حيث تجد آلافا من البشر يتفرجون على بضائع آلاف أخرى من البائعين الذين يفترشون أرصفة وشوارع الكراج وكانوا من الشباب القوي ولكن العاطل عن العمل الذين ارغمتهم الحاجة والبطالة والحصار الاقتصادي على عرض مالديهم من حاجيات بسيطة ولكن المتنوعة بشكل غريب سواء كانت مسروقة او جاءتهم عن متاجرة او مقايضة ليسدوا بما يحصلون عليه -إن حالفهم الحظ - رمقهم ورمق عوائلهم. وهذا التنوع في العرض هو الذي يجعل المتبضع يسمي سوقهم بسوق الحرامية ..
كنت استمتع في كل يوم جمعة في التجول في رحلتي المعتادة التي ابداها في صبيحة الجمعة بشارع المتنبي مرورا بسوق الشورجة وسوق الغزل ثم اتجه احيانا  الى محطتي الاخيرة سوق الحرامية او سوق البسطيات ( جمع بسطية بالعامية العراقية - وهي الخرقة التي يعرضون عليها بضاعتهم والبعض منهم قد وضع له شمسية (مظلة) من شمسيات البلاج الكبيرة فوقه اتقاءا من أشعة الشمس اللاهبة) في كراج الباب الشرقي مجاور نصب التحرير لأتفرج على هذا التنوع الغريب من العدد و الأدوات و الالكترونيات والمواد الانشائية والمنزلية والمكتبية التي كانت كلها من المستعمل و المستهلك وبعضه لم يدخل العراق سابقا..ثم بعد ذلك استقل إحدى سيارات الأجرة للعودة إلى بيتي في جانب الكرخ.
في احدى المرات حصل شيء غريب هناك..فحين كنت في عمق الكراج حصلت حركة اضطراب مفاجئة بين الناس في الطرف القريب من المدخل واذا بموجات بشرية لألاف من هؤلاء الشباب الاقوياء الذين كانوا يقفون قرب بضائعهم يتراكضون مبتعدين هاربين نحو العمق من شيء دخل عليهم من المدخل الرئيس للكراج. كانوا خائفين بشكل ذكرني بأفلام عالم الحيوان عندما يركض قطيع من الغزلان خوفا من أسد يطاردهم..
يا الهي ما الذي يحصل ؟؟ هل هناك اسد فعلا أم شيء آخر ؟
ان لم يكن رعيلا من الأسود هربت من سوق الغزل واتجهت إليهم..فما الذى اخافهم إذن وجعلهم يتقافزون بعيدا عن الباب الرئيسي؟ هل هم فعلا حرامية ودخلت عليهم مفارز الامن؟
ولكن.. اكثرهم هم من الشباب المفتول العضلات وهم بالآلاف، ولكي يكونوا مرتعبين إلى هذه الدرجة فلابد أن جيشا من قوات كبيرة من الامن قد داهمهم واخافتهم عدتهم وعددهم..وسوف يطبقون الحصار على المكان خلال لحظات ويعتقلون الجميع.. 
أو  ربما … ولكن .. لم تسعفني مخيلتي بعد ذلك ..فقررت ان اتقدم الى الامام بحذر لأعرف ما يحدث حتى استعد لأي طاريء ثم رغم ان الفضول قاتل احيانا الا انه لا يقاوم..
تقدمت قليلا حتى صرت قريبا من البوابة ولكني شاهدت مشهدا جديدا هذه المرة إذ كان بين المتقافزين شمسيات من شماسي البائعين  تتطاير في الهواء وتسقط بعيدا..
عندما وصلت قريبا جدا لمركز الحدث الرهيب انصعقت بالمشهد بعد ما تبين لي شكل الغول الذي جعل هؤلاء الشبان يتقافزون بعيدا على شكل موجات بشرية مرتبكة ومرعوبة..
أنا لا أبالغ فيما اصفه الآن أبدا.. فلقد حفظته في ذاكرتي منذ ذلك الحين..
كان المهاجم عبارة سيارة (تنكر) يمتد منه خرطوم مياه متدفقة يحمله عامل من عمال أمانة العاصمة يقوم برشق البائعين الذين يفترشون الأرض ليشتت شملهم…كان يرافقه للحماية واضفاء الصفة الرسمية على العملية،  شرطي هزيل واحد فقط لا غير.
عندها تأكد لي تماما بأن للقانون هيبة صنعها الخوف في الدولة العراقية.