الاثنين، 8 أغسطس 2016

رحلة في ذاكرة بغدادية - الحلقة 2


رحلة في ذاكرة بغدادية - سبعينات القرن العشرين 1970 - 1979
الحلقة - 2
صالح حبيب

نشر الاصل في الحوار المتمدن-العدد: 3337 - 2011 / 4 / 15 - 09:11المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات" قد لا تكون هذه هي وجهة نظر الآخرين ولكنها وجهة نظري الخاصة "ظاهرة عدنان القيسي- مفارقة ممتعة في حياة العراقيين
ظهرت منذ بداية عقد السبعينات ظواهر كثيرة في حياة العراقيين معظمها كان عبارة عن سيناريوهات موضوعة من قبل السلطة الحاكمة آنذاك منها ما اثرت سلبيا و منها ما أثرت ايجابيا و منها ما بقيت آثارها لفترة طويلة و منها ما نسيت و ولت بنفس السرعة التي ظهرت بها منها الأليمة كظاهرة السفاح ابو طبر التي لا تستحق الحديث عنها كثيرا و منها ما شكل للعراقين ذكرى طريفة بحيث انها سجلت في تراثهم و احاديثهم و امثالهم الشعبية مثل ظاهرة عدنان القيسي.من هو عدنان القيسي؟ وكيف أثر في حياة العراقيين؟

عدنان القيسي ذلك المصارع البطل الذي اذهل العراقيين بقوته وبضربته الفنية المشهورة بـ"العِكسية" (الضرب باستخدام كوع اليد) الكبار منهم قبل الصغار والمسؤولين قبل المرؤوسين بتمثيلياته في مباريات المصارعة الحرة غير المقيدة كما كانت تدعى آنذاك و المبنية على أداء الحركات المفتعلة والمتفق عليها مسبقا ونتائجها المحسومة مقدما.
 فقد نجح عدنان القيسي العراقي الاصل-الامريكي من محلة الاعظمية العريقة وعلى مدى حوالي عاما كاملا أو أكثر في تمرير هذا النوع من الرياضة التجارية غير الأولمبية والتي هدفها كان معروفا في أمريكا والعالم وهو جني الأرباح من الناس الذين يريدون تمضية بعض الوقت للتسلية مع علمهم المسبق بطبيعتها وانها مجرد تمثيل ولكن بعنف مدروس.
 ولكن للاسف صدقها العراقيون واتخذوها مجالا للفخر ببطولات ابنهم الضال الذي عاد ليرفع رؤوسهم أمام العرب والعالم. وطبعا لم يصدقهم أو يتفاعل معهم احد من العرب أو العالم لان العالم كله كان يعرف طبيعة هذه المباريات ما عدا العراقيين، ولكن من العراقيين الذين كانوا يدركون حقيقة الأمر ويعرفون بهذه الخدعة هو شيخ المعلقين والشخصية المحبوبة عند كل العراقيين الاستاذ مؤيد البدري عميد الرياضة العراقية الذي حاول أن يشرح للجمهور الحقيقة عبر برنامجه الرياضة في اسبوع ولكن للأسف لم يصغ إليه احد بسبب انجرافهم القوي نحو القيسي وحركاته البهلوانية وتعليقاته التي كان يعرف كيف يستغل بها العواطف العراقية وبسبب أيمانهم بهذه البطولات المزيفة كاد هذا الرجل مؤيد البدري أن يُنبذ من قبل جمهور برنامجه "الرياضة في أسبوع" ويقاطع رغم مكانته الاجتماعية و الإعلامية والرياضية ورغم الحب الذي يكنه له العراقيون ولبرنامجه الرياضي.وهكذا استطاع عدنان القيسي أن يسلب لب الجمهور العراقي و يصبح هو الشغل الشاغل الوحيد لأي عراقي من الشمال إلى الجنوب حتى كان من الصعوبة أن تعثر على شخصين أو اكثر يتحدثون سوية في موضوع إلا وكان ذلك الموضوع هو موضوع مباراة عدنان القيس التي حدثت قبل يوم أو خلال الأسبوع الماضي و تراهم يمجدون بهذا البطل العراقي الذي هاجر من منطقة السفينة بالأعظمية و اغترب في ديترويت -ولاية مشيغن الامريكية، ثم جاء إلى العراق ليعيد أمجاد الأجداد كبطل مغوار و ليتغلب على اعتى أبطال أوربا و أمريكا في المصارعة الحرة التي تعرضها حاليا القنوات الفضائية وتشتهر عروضها اليوم باسم WW أو World wrestling وفيها تجد نفس الأسلوب الذي كان القيسي يبهر به العراقيين و كانوا بالطبع يصدقون ظاهرة بطولاته الفذة و يصلّون له و يتضرعون قبل كل مباراة في المراقد و الجوامع و الصلوات، من اجل أن ينصره الله على خصمه القادم ليرفع رأس العراق عاليا ثم ينحرون الذبائح و يوزعون الشرابت و الجكليت بعد نصره المؤكد على الخصم، كان العراقيون من البساطة بحيث أنهم لم يكونوا يعلمون بان نتائج هذا النوع من المباريات محسومة مقدما و نسب أرباحها محسوبة و الحصص قد تم توزيعها قبل ايام من المباراة.اتذكر في منطقتي آنذاك "منطقة الفضل" كان الناس يرقصون على انغام الموسيقى الشعبية "المزيقة" ويوزعون الحلويات والشربت في كل مكان و كانت صوره ملصوقة على الجدران في كل مكان..هذا الاعجاب العميق بهذا البطل الاكذوبة..حرك الضغينة والحسد في قلب الرجل الثاني في السلطة الذي لا يقل نرجسية عن اي بطل من ابطال المصارعة..مما جعله يحسب لهذه الظاهرة الف حساب لان عدنان القيسي خطف الاضواء من الجميع.فجأة وبعد كل هذا الانبهار ووعوده بتطوير رياضة المصارعة في البلد وفق صيغ عالمية و امريكية، صحى العراقيين في يوم من الأيام ولم يجدوا عدنان القيسي بينهم و لا من يتحدث عن بطولاته . فاما ان البطل قد فر بالغنيمة "گلب بالدخل كما يقول العراقيون" وتركهم يديرون برؤسهم يمنة ويسرة فلا يجدون له اسما أو لقبا يذكر وكأن شيئا لم يحصل واما انه تم تهديده من قبل رجال السلطة تهديدا مرعبا..فنفذ بجلده سريعا.شعب طيب و ساذج و يعيش في عزلة بعيدا عما يحصل في العالم منذ زمن بعيد.للذكرى:"تأثر الشباب العراقي والاطفال العراقيين بشخصية عدنان القيسي جعل معظم الشباب تتجه الى النوادي الاولمبية للتسجيل في فرق المصارعة..وكذلك صار الاطفال يقلدون ضربته العِكسية - كان يينهك الخصم بصفعات قوية على الوجه - او تبدو كذلك- ثم يقفز في الهواء ليضرب مؤخرة رقبة الخصم بعظمة العكس ليده اليمنى ويكرر ذلك عدة مرات حتى ينهار الخصم..سمعنا خلال تلك الفترة ان الكثير من الاطفال الصغار ادخلوا الى المستشفيات بسبب ضربات تلقوها من اخوانهم الاكبر سنا تقليدا لعدنان القيسي"وللحديث بقية

رحلة في ذاكرة بغدادية - الحلقة - 1



رحلة في ذاكرة بغدادية - سبعينات القرن العشرين 1970 - 1979

الحلقة - 1
" قد لا تكون هذه هي وجهة نظر الآخرين ولكنها وجهة نظري الخاصة "


"أعطي نصف عمري على أن أعيش بضعة أيام من السبعينات"
في عقد التسعينات و ما بعدها كثيرا ما كان يدور الحديث بيني و بين أصدقاء من أقراني أو اصغر أو اكبر سنا، عن عقد السبعينات من حياة العراق في القرن العشرين فقد كنت اسمّي هذا العقد من الزمن بالعقد الذهبي من حياة العراق في التاريخ المعاصر ولكثرة تطابق آراء كل من يشترك معي بالنقاش أو من كان يصغي إليه بحيث أن أحد الاصدقاء و رغم انه من مواليد السبعينات إلا أن ذاكرته لم يمسها ذلك العقد و إنما تفتحت في عقد الثمانينات حين كان العراق يخطو أولى خطواته في طريق التدهور و الدمار رغم أن إعلام النظام ذلك الوقت كان يحاول أن يقنع الجميع بأنه زمن النهوض و الارتقاء الحضاري قد بدأ مطلع الثمانينات، كان صديقي دائما يقول لي بالحرف الواحد " أعطي نصف عمري على أن أعيش بضعة أيام من السبعينات".
في عقد السبعينيات وعندما كانت كلمة "حرب" لا تعني لذلك الجيل من العراقيين إلا مجرد موضوع من الماضي الذي يسمعون عنه من آبائهم ويقرأونه فقط في الصحف و نشرات الأخبار و كتب التأريخ.
كانت اهتماماتهم و احاديثهم مختلفة تماما عما نراه و نسمعه في عصرنا الحالي، فقد كانت آخر حرب اشترك فيها العراقيون هي حرب تشرين 1973 و لم يكن لهم فيها حصة كبيرة سواء من حصص النصر أو الربح أو الخسارة مجرد مساهمة تعزيزية للجبهة السورية رغم اننا اعطينا عدد لا بأس به من التضحيات و الشهداء خالدي الذكر.
كان جل اهتمام العراقيين و احاديثهم مركزة على الحب و المودا وآخر تقليعات اوربا و أمريكا وعلى السفر إلى اليونان و لندن وأوربا الشرقية كبلغاريا وبولونيا وهل الذهاب إلى هناك بالطائرة احلى وافضل ام سياقة بالسيارة الخاصة عبر تركيا ؟ وعن أحدث الأفلام الأجنبية الرومانسية و الاجتماعية ( وليس أفلام الآكشن أو الرعب ) و عن الأفلام العربية وآخر الأغاني الجديدة لأم كلثوم وعبد الحليم وفريد الأطرش وتوم جونز و إنكلبرت هنبوردك وتينا تشارلز وديمس روسوس وفرقة آبا و بوني- إم وعائلة بندلي وعن آخر أخبار و فضائح الفنانين في مجلة الموعد اللبنانية الخاصة بأخبار السينما و الفنانين وأخبار شارع الحمرا في بيروت و آخر تقليعاته قبل أن يحترق لبنان بالحرب الطائفية.
بغداد كانت مدينة جميلة نظيفة ومبانيها الكبيرة والتي نراها متداعية اليوم كانت رائعة جديدة وشامخة، و كانت هذه المدينة الالواسعة افقيا و الخلابة والعذبة النسيم قد بدأت توا تتجمل و تنهض و تحاول أن تلحق بركب العواصم الأوربية الأنيقة في الوقت الذي كانت فيه أكثر العواصم العربية والخليجية مجرد مدن بسيطة  قاحلة، فمثلا انتشرت في بغداد كابينات انيقة للهاتف العمومي مصنوعة من الالمنيوم والزجاج في كل الشوارع و كذلك توزعت على اعمدة الشوارع في كل مكان سلات بلاستيكية برتقالية انيقة للمهملات الشخصية في كل مكان و صارت من الأمور المعتادة في بغداد و المحافظات.
و في بغداد السبيعينات ابتدئ بتطبيق قوانين حضارية رائعة مثل قانون العبور من الاماكن المخصصة في كل الشوارع  " خطوط العبور البيضاء" واشارة قف و اعبر الضوئية للسابلة وقانون ربط حزام الامان للسائق و الراكب و انتشرت تجربة المولات الكبيرة و عرفت باسم الاسواق المركزية و لم تكن قد ظهرت في الدول العربية بعد، ولكنها كانت موجودة في بغداد منذ الخمسينيات (حسو اخوان) و (اورزدي باك) في شارع الرشيد وحتى شركات بيع السيارات الامريكية و الالمانية.
ولكن للأسف سرقت الهواتف العمومية و استعملت كابيناتها كأماكن للتغوط و التبول من قبل الرعاع و احرقت سلات المهملات البلاستيكية لأن بعض المتخلفين كان يرمي اعقاب السكائر وهي مشتعلة فيها معتقدا انها نفاضة وتم غزو الاسواق المركزية من قبل فصائل الدلالات و عصابات السوق السوداء. ولكن لم تدم تلك المظاهر الحضارية التي بنيت ونظمت ولم تكافح تلك الممارسات السيئة ولم يتم توعية المواطن بشكل جدي ليتعرف ويتعود على كيفية التعامل مع مفردات الحضارة الحديثة وأصولها حتى أخفقت الكثير من تلك المظاهر الحضارية الجميلة في البقاء والاستمرار مثل نظام المرور والأتصالات والمولات وانظمتها التي ظلت خاوية على عروشها اثناء فترة الحصار وما بعدها.
للذكرى:
"اضافة للتجارب المذكورة التي ظهرت في العراق وبعد ان حققت نجاحا منقطع النظير لم تستمر وفشلت للاسف - فشلت واسقطت بتعاون الشعب مع الدولة ومنها الدولة هي السبب الرئيسي لفشلها - الشركة الافريقية للاجهزة الالكترونية والكهربائية - الشركة العامة للآلات الدقيقة - شركة الصناعات الخفيفة - سوق الثلاثاء والاسواق المركزية - مراكز الرعاية العلمية للهواة - المرصد الفلكي العراقي -  مشروع مترو بغداد - بلانيتريوم بغداد (حرق اثناء السقوط) -هواتف الطواريء على الطرق الخارجية - اعادة اعمار شارع الرشيد - والقائمة طويل"


للحديث ..بقية