ذكريات عبرت أفق خيالي - مذكرات لوقائع حقيقية
بقلم: صالح حبيب
سكران أم خبل
" في احدى الامسيات الجميلة من اماسي بغداد السبعينات 1979 كنت جالسا مع اخي الاصغر في احدى الكازينوهات المطلة على نهر دجلة الخالد في ابي نؤاس نلعب الشطرنج، كنا نعشق هذه اللعبة ونتنافس على الفوز دائما، كان جلوسنا قريبا للسور الخشي الخلفي للكازينو والواطيء الذي يحاذي ممرالمتنزهين على النهروعلى متر واحد منه، وفي احدى اللحظات استفقت من استغراقي باللعبة ورفعت عيني عن رقعة الشطرنج واذا بشخص ينتصب امامنا على الممر الضيق المبلط قرب السياج ينظر الى رقعة الشطرنج من مكانه ويضرب بيده اليمين بشكل متتالي على رجله ويتحسر بشكل واضح ..استغربنا انا واخي لوضعه الغريب..
سألني اخي : " هذا شبيه ؟"
فقلت لأخي: "العب العب عوفه هذا لو سكران لو خبل"
تجاهلناه وغرقنا في التفكير بالنقلة القادمة
ما هي الا دقائق حتى تفاجأت بنفس الشخص يقف قرب مجلسنا متسلطا فوق رؤوسنا وكأنه قد نبع من الارض
سألني : "هل تسمح لي بالجلوس؟"
والملفت للنظر انه سألني باللغة الانكليزية
نظرت في وجهه وانا صامت لفترة طويلة حتى احسست انه ارتبك لتأخري بالسماح له بالجلوس وفي الحقيقة ان تأخري بالاستجابة له هو انني كنت اتساءل لماذا يتحدث الانكليزية هل هو يتبجح ام انه يتظاهر أمامي بالثقافة الاوربية؟
اشرت له: "تفضل"
جلس وهو يدير برأسه يمينا وشمالا باحتجاج لتأخري بالسماح له بالجلوس او ربما لانني لم اكن مضيافا بما فيه الكفاية.
فقلت مع نفسي لنختبر لغة الرجل الانكليزية الذي يتظاهر امامي بانه اجنبي (كان عملي في تلك الفترة في صحافة الشباب وجزء كبير منه كان في الترجمة من المجلات والصحف الاجنبية)
بدأت اسأله وهو يجيب فتبين لي فعلا انه ليس عراقيا يتظاهر بما ليس له بل هو اجنبي ولكن مظهره وهيئته ولونه هم الذين خدعوني في باديء الامر
تبين انه فنزويلي يعمل في احدى شركات النفط في العراق.
بعد ان انهينا اللعبة أنا واخي وهو يراقب اللعب بصمت دعاني لكي العب معه وبنبرة مليئة باللهفة وفيها نوع من التحدي فقبلته ويبدو انه كان يخبيء مفاجآت هجومية لي جلبها معه من بلاده البعيدة..وفعلا كان هذا الرجل الذي اعتبرته في باديء الامر سكرانا او خبلا، كان يلعب الشطرنج باحترافية عالية وفن حتى وجدت نفسي شبه منهزم امامه فعانيت الامرين من قوة لعبه وسرعة هجومه وتطويقه لقطعاتي ولكنني وكما يحدث في افلام الملاكمة باغتّه اخيرا بنقلتين لم يكن يتوقعهما اطلاقا وتمكنت منه بهما لأفاجئه مباشرة ..بكش مات..دون المرور بسلسلة من الكش ملك فمددت يدي له مصافحا وانتهت اللعبة بفوزي عليه وسط دهشته.
صافحني ولكن الرجل بقي غيرمصدق انه اندحر وراح ينظر الى الرقعة وينظر الي حتى رثيت لحاله لأنه كان يقول مع نفسه بصوت مسموع: كيف ؟ كيف؟ هذا غير ممكن؟
احسست انه يكاد يقول لي من انت حتى تغلبني بهذه السرعة؟ وحتى احسست انه يكاد ينفجر غضبا فطلب منى ويكاد يتوسل، ان اقبل اللعب لدست آخر (الدور او اللعبة الكاملة في الشطرنج تسمى دست) فقبلت..
هذه المرة كان لعبه مختلفا تماما بل مثيرا ..حقيقة انا لم ار مثيلا له في حياتي إلا في كتب ومباريات المحترفين من ابطال العالم، وللذين لهم معرفة بلعبة الشطرنج أقول لقد هجم علي بالبيادق (الجنود) فقط في باديء الامر وباسلوب صعقني فعلا حتى حاصرني بها وبهجوم صاعق وجميل للغاية وقاتل في نفس الوقت فتغلب علي بطريقة لم اتوقعها ..لقد احببتها في الحقيقة ..فوجه لي الكش مات بالبيادق والوزير فقط وكأنه ينتقم لكرامته بأبخس القطعات.
صافحني ونهض مختالا بتعادله
وانصرف بهدوء
مازلت اذكر تلك الهزيمة الشطرنجية الجميلة التي اصابتني وابتسم للطريقة التي هزمت بها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق