ذكريات عبرت أفق خيالي - مذكرات لوقائع حقيقية
رُبَّ صدفة مُرَكّبة ..
بقلم: صالح حبيب
عام 1980 كنت طالبا قد انتقل توا الى الصف الثاني من قسم الفندقة في الجامعة المستنصرية بعد سنة دموية شهدتها الجامعة بسبب التفجيرات بالرمانات اليدوية عند بوابتها الرئيسية في محاولة لاغتيال طارق عزيز وقادة الاتحاد الوطني لطلبة العراق اثناء حضورهم مؤتمر اقتصادي لدول آسيا كان يعقدها الاتحاد في الجامعة في 30 آذار من نفس العام.
كنت في ذلك الوقت اعمل كمحرر صحفي في صحافة الشباب اضافة الى كوني طالبا في المستنصرية.
في بداية ايلول كنت في رحلة أرسلني بها اتحاد الشباب كصحفي مرافق لوفد شبابي الى دولتي قطر والبحرين وكان مقررا لها ان تستمر لشهر كامل..
بعد زيارتنا للبحرين،انتقلنا الى قطر، ولم يمض علي زيارتنا لها اكثر من سبعة أيام عندما التقط احد اعضاء الوفد عبر اريال السحب التلفزيوني في غرفته لتلفزيون بغداد الذي يتم تقوية اشارته في البصرة.
لكن فرحتنا لم تكتمل لأننا تفاجأنا بوضع غير عادي في العراق، كانت عروض تلفزيون بغداد عبارة عن بيانات عسكرية وأناشيد للجيش وللقائد ..اول شيء شاهدناه من هناك كانت اغنية " كلنا مشينا للحرب"
لابد ان شيء جلل قد حدث في العراق..
بعد الذي شاهدناه قررنا قطع سفرتنا والعودة للبلد فاتصلنا بالسفارة العراقية التي (وكما توقعت تماما) نصحتنا بالسفر بالطائرة الى عمان الاردن ومن ثم بالباصات الى بغداد، وهذا ما حصل بالضبط.
في بغداد كان الجو غريبا علي وعلى كل العراقيين..مظاهر الحرب واضحة، قصف الطائرات الايرانية..صفارات انذار تنعق كل مدة خلال اليوم لدخول طائرات..وفي احدى الغارات ضربت محطة توليد الدورة وتعالى الدخان منها وكانت تلك الضربة قاصمة..بقي تأثيرها سنين طويلة..
ورغم ان السلاح الجوي العراقي قد نجح في كسر شوكة الطيران الايراني ودمره تدميرا كاملا خلال الاسابيع الاولى للحرب وجعله معقدا طيلة سنوات الحرب الا ان هذا لم يحد من الهجمات الايرانية وقوتها رغم ان القوات البرية العراقية قد دخلت في الشهر الاول عشرات الكيلومترات داخل الاراضي الايرانية واحتلتها وتمركزت فيها.
مهمة صحفية
رغم ان عملي كمحرر صحفي في مجلة الشباب هو محررا علميا الا ان الحرب فرضت على الكل تغييرات لابد منها..ففي خلال يومين من وصولي للوطن صدرت لي التعليمات من مدير التحرير لكي اذهب لتغطية اخبار الجبهة العراقية في احد قواطع العمليات وان اقوم بعمل حوارات مع المقاتلين.
اول شيء فعلته هو لقائي بحبيبتي و توديعها ..لأنني لا اعرف ان كنت سأعود من تلك المهمة..فكل شيء كان مشوشا امام اعين الشباب العراقي..بل العراقيين جميعا.. ووجدت انني ربما اكثر حظا من المقاتلين الذين يدافعون في ارض المعركة ولم يودعوا زوجاتهم وابنائهم وامهاتهم قبل المسير للحرب.
وهكذا كان اخذت معي مصورا فوتوغرافي و مصور فيديو وسيارة مع سائقها واتجهت الى قاطع ميسان (العمارة) ثم اتجهت الى منطقة تسيطر عليها قواتنا العراقية في مخفر "الفكة" في قاطع ديزفول الايراني.
كان الجو هناك مخيفا..خصوصا بالنسبة لطالب جامعي لم يشاهد حربا في السابق.
كنت انا والمصورين نتجول بين الدبابات والسيارات المحترقة توا في معركة حامية كانت قد دارت قبل ساعات قلائل لكن الذي كان يرفع من معنوياتي ويذهب الخوف عن قلبي وانا امر في ارض دارت فيها معركة قبل قليل هو مصادفتي لدبابات عراقية متقدمة على الطريق متجهة الى الامام تشق الغبار وعلى اريلاتها علم عراقي صغير واشارات دلالة للكتيبة والفرقة والرعيل التي تتبع له
كان افراد طواقمها يعرفون بأننا صحفيون فيلوحون لسيارتنا اللاندكروز البيضاء محيين ورافعين علامة النصر V.
كنت في تلك اللحظات افكر بصديقي الحميم وهو بمثابة احد اخواني. اذ تربينا معا سواء في بيتنا او بيتهم او في الدراسة او الهواية او السفرات او مغامرات وطيش الشباب والحياة اليومية ..صديقي الراحل "فريد"، الذي سبقني لأداء خدمته العسكرية منذ عام 79 قبل بدء الحرب، وكل ما اعرفه عنه حسب ما كان يحدثني انه في صنف الدروع لواء 34 ولكن اين هو الآن من هذه الحرب في هذه الجبهة العريضة التي تمتد شرق العراق من الفاو الى اقصى نقطة في الشمال ؟؟ لا اعلم ..هل هو في مدينة "العمارة" الآن كما قال لي قبل اشتعال الحرب؟
توغلنا في عمق الجبهة حتى وصلنا مخفر "الفكة" الايراني وقمت بعمل بعض الريبورتاجات الصحفية مع المقاتلين و ايضا مع بعض مقاتلي الجيش الشعبي الذين تركهم الجيش هناك كوحدات تعزيز للمواقع الايرانية المحتلة ("المحررة" وفقا للتعبير العسكري العراقي) ..ولم يسمح لنا بالتعمق اكثر من ذلك نحو الامام لوجود معارك كنا نسمع هديرها.
بعد اتمامي مهمة التغطية عدت الى القدمات الخلفية للقوات العراقية للاستراحة ومن ثم مواصلة رحلة العودة الى العمارة و بعدها الى بغداد فقد كانت جميع الطرق مهددة بخطر القصف الجوي من قبل الطائرات الايرانية قبل ان تضمحل قوتها على ايدي صقورنا.
بعد العودة الى الخطوط الخلفية كنا في ضيافة احدى القدمات الادارية الخلفية لاحدى الوحدات العسكرية التي تقاتل قطعاتها في الامام..فراودتني فكرة بالسؤال عن لواء صديقي "فريد" فلعلهم يعطونني اخبارا استطيع بها ان اطمئن على سلامته ومن ثم طمأنة أهله عليه حال عودتي الى بغداد اذ كانت العوائل العراقية تعيش حالة من الرعب على ابنائها لأن الجيش لم ينزل احد منهم من جبهات القتال في اجازة منذ بدء القتال الا شهيدا في نعش ملفوف بعلم العراق…
مفاجأة غير متوقعة
فسألت الضابط الذي كنا في ضيافة وحدته وكان برتبة نقيب واسمه النقيب "سعد":
- عندك فكرة اخ سعد عن اللواء المدرع 34
ابتسم نقيب سعد باستغراب وكانه تفاجاة بالسؤال
- شعجب تسأل عن لواء 34 ؟ شنو عندك أحد بيه ؟
- والله عندي صديقي بهذا اللواء وكل اللي اعرفه انه في قاطع العمارة بس قاطع العمارة قاطع ضخم بي آلاف الوحدات والألوية ..من البصرة للكوت عبر العمارة اضافة الى الوحدات المقاتلة بالعمق الايراني
- زين هو شيشتغل باللواء؟ شنو اسمه ورتبته؟
- هو نائب عريف آمر دبابة ..اسمه فريد رضا
ضحك نقيب سعد وقال لي
- وصلت
- شتعني اخ سعد ؟
- احنا لواء 34
- لا مستحيل ..تتشاقى (تمزح باللهجة العراقية)
- لا ما اتشاقه وهذاااااك فريد جايب دبابته للتصليح لأن ضاربتها شظية بالمحرك
وصاح باعلى صوته " نايب عريف فريد"
خرج من برج الدبابة شبح طويل مليء بتراب المعركة وانتصب فوق البرج لبضعة ثواني وهو ينفض عنه التراب الذي يخفي معالم وجهه وشعره وملابسه وكأنه ينفضه عن بدلة سموكنغ.
دققت النظر اليه من بعيد ..كان صديقي يمتاز بطول قامته، كان اطول مني بعشرة سنتمترات..نعم يبدو انه هو فريد فعلا ..نعم انه هو
نظرت الى نقيب سعد بدهشه غير مصدق واعدت النظر الى صديقي الذي تغطت معالمه بالتراب..
"نعم سيدي" تاكدت انه هو فريد فعلا من خلال صوته الذي صدح من فوق الدبابة.
"تعال هنا..اكو جماعة يسألون عنك"
عندما اقترب وابصرني بقينا مشدوهين امام بعض غير مصدقين بهذه الصدفة التي جمعتنا هنا في ارض المعركة من غير ميعاد وانا مدني اولا و مسافر الى خارج العراق..وكان لقاءا دراماتيكيا.
عندها استغليت كرم النقيب سعد و نبل اخلاقه فوجهت رجاءا أخويا له
"ما دام فريد حاليا بدون دبابة و دبابته حاليا بالتصليح فممكن آخذه معايا لبغداد حتى اهله يطمأنون عليه؟ "
"ماشي ميخالف " ثم نظر الى فريد " بس لا تبقى اكثر من ليلتين لأن دبابتك تكمل عكب باجر حتى ترجع وياها للامام"
فريد لم يستأثر بهذه الفرصة التي اتاحها له آمره لنفسه فقط بل ترجاه ان يأخذ احد افراد طائفة دبابته معه:
"ممكن آخذ ويايه جندي اول صفاء؟ هو هم رح يبقى هنا بلا دبابة الى ان تصلح دبابتنا وبيتهم ايضا في بغداد"
"يالله روحوا بس لا تتأخرون اكثر من ليلتين وتحرجوني مع آمر الكتيبة وتعرفون الاجازات ممنوعا قطعيا و هذه على مسؤليتي"
بما ان معنا سيارة قلت للجميع للنذهب الى سوق العمارة الكبير اولا حتى نتسوق بعض الحاجيات قبل الذهاب الى بغداد ..فقد كانت الحياة مستمرة ودائبة رغم القصف الجوي الأيراني فنزلنا نتجول في السوق
ويبدو ان الصدفة والحظ خدمنني اليوم اكثر مما كنت اتوقع..
الصدفة تضرب من جديد
"ضياء داود الݘبّان" السكرتير العلمي لكامل الدباغ في الرعاية العلمية ومدير قسم الفيزياء فيها وصديقنا المقرب اضافة لكل مناصبه و قد كان ايضا معد ومقدم برنامج هوايات علمية على قناة 7 قد تم استدعائه الى خدمة الاحتياط العسكرية خلال ايام من بدء الحرب العراقية الايرانية حاله حال الآلاف من ضباط الاحتياط العراقيين الشباب.. فجأة وجدنا انفسنا وجها لوجه معه وهو يرتدي بدلة الضباط العسكرية وهو يتجول في سوق العمارة قبل التحاقه بالجبهة ..ولكم ان تتخيلوا هكذا لقاء يضم ثلاثة اصدقاء بصدفة مركّبة عجيبة.
كنا نعتقد ان هذه الحرب سرعان ما ستتوقف خلال بضعة ايام او على الاكثر بعد بضعة اسابيع..لكن لم نكن نعلم انها ستكون اطول حرب في القرن العشرين و انها ستأخذ مليونا من البشر من الجانبين اضافة الى خسائر مالية قدرت ب400 مليار دولار وانها ستجلب المصائب على العراق تتفاقم حتى تجهز عليه وتؤدي به الى ما هو فيه اليوم..
كانت تلك آخر مرة نشاهد فيها صديقنا ضياء داود ..فقد استشهد بعد ذلك بأيام
كانت اول مرة لي اتعرف بالجندي اللطيف صاحب النكتة الحلوة والمليء بالحيوية "صفاء" وهي ايضا آخر مرة اراه فيها فقد استشهد بعد شهر تقريبا ولم يبق منه الا ذكرى الاحاديث الطريفة..ولذة طعم أكلة المقلوبة التي عزمنا عليها في بيتهم.كانت آخر مرة ارى فيها صديقي فريد هي في ايلول 2009 وهو يودعني بحزن قبل يوم واحد من سفري الى المهجر، رحل عنا عام 2011
انا و صديقي فريد ما قبل حرب ايران
طائفة دبابة فريد في الوسط فريد - صفاء
دبابة فريد في الوسط فريد وصفاء وصالح
في الطريق الى بغداد - فريد في اليسار الجالس صفاء
في برنامج هوايات علمية على قناة 7 الجالسون صالح - مازن (فقد في حرب ايران) - ضياء داود مقدم البرنامج استشهد- نوال الابراهيم - فريد و في الخلف مخرج البرنامج
1975
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق