الأربعاء، 4 مايو 2016

المشكال - من الخيال العلمي


Kaleidoscope
By: Ray Bradbury
المشكال





قصة: راي برادبري
Translated by: Salih Habeeb
ترجمة : صالح حبيب


ملاحظات المترجم:
المشكال : ناظور للأطفال مغلق من احد اطرافه ، في داخله مرايا وشضايا زجاجية ملونة ، ويصنع في داخله مالا نهاية له من الأشكال الزخرفية الملونة. والأسم " مشكال " هو الترجمة الحرفية للكلمة الأنكليزية KALEIDOSCOPE التي اقرها المجمع العلمي العراقي 
الشهاب الساقط : في الفولوكلور الامريكي والاوربي عندما يضيء شهاب في السماء فأن من يشاهده يتمنى امنية لأنه اشارة الى الحظ السعيد.

كان للصدمة أثر مفجع على السفينة الفضائية الصاروخية، اذ قطعت مقدمتها كما يقطع غطاء علبة السردين، واصبح جوفها مفتوحا الى الفضاء، وخلال لحظات لفظت من جوفها كل من كان في داخلها من الرجال فتدفقوا نحو الفضاء كأنهم حشد من الأسماك الفضية تفرق في ظلمات قاع المحيط كل منهم في جهة مختلفة.
وماهي الا دقائق حتى تفجرت السفينة واستحالت الى شظايا انطلقت في الفضاء بسرعة جنونية في كل الأتجاهات.
أما الرواد فهم ايضا كانوا ينطلقون مشتتين متباعدين عن مركز الأنفجار كل في اتجاه وبسرعة لا تقل عن سرعة الشظايا. ولحسن حظهم انهم كانوا في لحظة الكارثة لابسين كامل بدلاتهم المكيفة بكل متطلبات الحياة من هواء وضغط و تدفئة واجهزة اتصال لاسلكية .
وخلال دقائق لم يعد في منطقة الأنفجار أي اثر للكارثة، اذ خلت المنطقة تماما من كل شيء ، من الرواد والشظايا ومخلفات السفينة المنفجرة ، فكل شيء تبدد هاربا من مركز الانفجاربسرعة هائلة.



ـ باركلي .. باركلي .. أين انت؟ 
صاح احدهم عبر اجهزة الأتصال التي هي الآن اصبحت الوسيلة الوحيدة للأتصال فيما بينهم فبواسطتها يسمعون بعضهم ويتكلمون مع بعضهم رغم انهم ينطلقون متباعدين عن بعضهم باتجاهات مختلفة و سرعات مختلفة، كانت نبرة صوت المنادي تنم عن خوف طفولي. 
ـ وود .. وود .. وود ! 
ـ كابتن 
ـ هولز..هولز.. انا ستاون 
ـ ستاون، انا هز، أين انت؟ 
ـ لا أعرف، وكيف لي ان أعرف؟ أين الأعلى، أين الأسفل؟ انني .. انني أهوي .. آه يا الهي انني أهوي. 
كان الجميع يهوي كما تهوي حفنة من الحصى في بئر مظلمة، ويتناثرون في كل الأتجهات، والآن وبدلا من حفنة من البشر التي بدات قبل قليل تنتشر في الفضاء لم يتبق إلا مجرد أصوات، أصوات خاوية، متوترة، خائفة، لا تتعرف منها إلا على درجة رعب وفزع اصحابها . 
ـ نحن نتباعد عن بعضنا .. 
كانت تلك حقيقة ادركها هولز بعد الانفجار مباشرة، وأستسلم للأمر وادرك بأنهم يتباعدون في اتجاهات مختلفة ولن ينجمع شملهم بعد ذلك أبد الدهر. 
رغم انهم كانوا يرتدون بدلاتهم الفضائية المكيفة إلا ان الأنفجار لم يمنحهم فرصة اصطحاب وحدات المناورة التي تربط على الظهر ليتمكن رائد الفضاء بواسطة محركاتها الصاروخية من المناورة والتوجه الى حيث الأمان، فهي تعتبر زورق انقاذ فضائي محمول، ولكنهم بدونها مجرد نيازك تهيم في الفضاء، لا حول لها ولا قوة، وكل منهم يسعى الى مصيره المحتوم .


لم تمض اكثر من عشر دقائق حتى سكنت صيحات الرعب والهلع وحل الهدوء. 
ستاون الى هولز،  كم تبقى لنا من الوقت الذي نستطيع فيه الأتصال مع بعضنا؟ 
ساعة واحدة. 
بعد دقيقة من الصمت قال ستاون 
ماذا حدث؟ 
اجابهولسن 
لقد انفجرت السفينة، هذا كل ما في الأمر، انفجرت السفينة.. 
في أي اتجاه قذف بك الأنفجار ياستاون؟ 
يبدو انني في طريقي للأرتطام بسطح القمر،  فأنا اتجه نحوه. 
وأنا اتجه الى الأرض.. أعود الى الأم الكبيرة.. وبسرعة عشرة آلاف كيلومترا بالساعة، سأحترق كعود ثقاب. 
شرد ذهن هولز،  أحس كأنه قد غادر جسده، وراح يراقب نفسه وهو يهوي في الفضاء، وكأنه نــتفة ثلج سقطت مبكرة اول الشتاء. 
كان البقية صامتين يفكرون بالقدر الذي قادهم الى هذا المصير، السقوط، وليس في ايديهم شئ يفعلونه لتغييره. حتى الكابتن كان صامتا، فلم تعد هناك أوامر يصدرها لينقذ الموقف كما في كل مرة. 
صاح احدهم 
انه طريق طويل الى الأسفل..آه انه طريق طويل طويل طويـ.....ل. 
ثم هتف مرة اخرى بجنون 
لا.. لا أريد ان اموت 
من هذا؟ 
لا أعرف 
أعتقد انه ستامسون.. أهذا انت يا ستامسون؟ 
انه طريق طويل يا الهي انا لا احب هذا الطريق انا لا أحبه. 
ستامسون.. هنا هولز.. ستامسون هل تسمعني؟ 
صمت الكل قليلا، وهم ينطلقون متباعدين عن بعضهم. 
ستامسون 
نـ..نـ..نعم. أجاب أخيرا 
ستامسون هون عليك، فكلنا نواجه نقس المصير. 
لا اريد ان اكون هنا، اريد ان اكون في مكان آخر. 
لا بد بأن هناك فرصة.. وسنعثر عليها. 
يجب.. يجب انني لا اصدق هذا، انني لا اصدق أي شيء من مما يحدث. 
فقال احدهم : 
انه كابوس 
فصاح به هولز 
اخرس 
فأجابه بأستهزاء: 
هيا تعال واخرسني 
كان هذا هو أبلكيت الذي ضحك بأرتياح وبنبرة ساخرة ثم عاد يقول : 
هيا، تعال وأغلق فمي ان استطعت. 
شعر هولزلأول مرة بأستحالة ممارسة صلاحياته كقبطان للسفينة،  فملأه غضب عظيم، لأنه كان في تلك اللحظة يتوق لفعل شيء لأبلكيت لقد كان يريد ان يفعل شيئا ما له منذ سنين، ولكن فات الآوان فأبلكيت الآن هو عبارة عن صوت في اشارة لاسلكية.. 
انهم يسقطون الآن.. 
  
*** 
  
يبدو ان اثنين من الرواد قد اكتشفوا هول الأمر تواً، لذا بدأوا بالصراخ بفزع، كان الأمر كله يبدوا مثل كابوس مرعب، شاهد هولز احدهم وهو يطفوا في الفضاء قريبا منه وهو يصرخ ويصرخ. 
كفى! 
كان الرجل يصرخ بجنون، ويبدو انه لن يكف عن صراخه وسيبقى هكذا لمليون ميلا طالما هو في مدى الأجهزة اللاسلكية، مسببا الأضطراب للجميع، وجاعلا الأتصال فيما بينهم مستحيلا، حاول هولز ان يصل اليه، بذل ما في وسعه حتى بلغه في النهاية وامسك به، كان الرجل يصرخ ويتقلب بعصبية وأهتياج ويتشبث كالغريق حتى بدى كأن صراخه يملأ الكون. 
فكر هولز مع نفسه بأن هذا الرجل سيموت ان عاجلا او آجلا سواء بأصطدامه بالقمر او بأحد النيازك او بدخوله الغلاف الجوي للأرض فلمَ لا يموت الآن؟ 
لذا فقد رفع قبضته نحو وجهه وسددها اليه وبضربة فولاذية، حطم زجاجة خوذته فكف عن الصراخ. 
دفع نفسه بواسطة الجثة، فأندفعت بدورها عنه وتركها تتقلب في مسارها المتهاوي. 
سقوط مستمر و هولز و رفاقه راحوا في دوامة من الصمت. 
هولز.. أمازلت هناك؟ 
لم يجب هولز ولكنه احس بحرارة تتدفق الى وجهه. 
انا أبلكيت، مرة أخرى 
حسنا يا أبلكيت،  ماذا تريد؟ 
لنتحدث، فليس لدينا ما نفعله غير ذلك 
فقاطعه هولز: 
هذا يكفي، علينا ان نجد طريقة للخروج من هذا المأزق. 
قال أبلكيت: 
ايها الكابتن، لمَ لا تغلق فمك؟ 
ماذا؟ 
لقد سمعتني ايها الكابتن، لا تتعامل معي برتبتك، فأنت الآن على بعد عشرة آلاف ميل عني ولا تدعنا نضحك من انفسنا فكما قال ستامسون انها رحلة طويلة الى الأسفل. 
اسمع يا أبلكيت! 
انه عصيان. وليس لدي ما أفقده، ان سفينتك سفينة مقرفة،  وانت ايضا قبطانٌ مقرف واتمنى ان أراك وانت ترتطم بالقمر وتتحطم.  
اصمت ! أنا آمرك ان تصمت حالا! 
"استمر،  هيا آمرني مرة أخرى بأن أصمت" قال أبلكيت مبتسما عبر عشرة آلاف ميل. وكان القبطان صامتا،  بينما استمر أبلكيت قائلا بسخرية : 
ماذا كنا نقول ياهولز؟ آه نعم تذكرت، انا أكرهك وانت تعرف ذلك منذ زمن. 
ضم هولزقبضته ولكن دون جدوى،  فقال أبلكيت: 
وددت ان اخبرك بشيء سيسعدك،  انا الذي عرقل انتخابك رئيسا لمؤسسة بناء الصواريخ قبل خمس سنين. 
ومض شهاب في الجوار، نظر هولز الى جسمه، فوجد ان يده اليسرى قد بترت وبدأت الدماء تتدفق سريعة منها وفي الحال تسرب الهواء المضغوط من داخل بدلته، ولكن كان هناك مايكفي من الهواء داخل رئتيه ليتمكن من تحريك يده اليمنى لعمل عقدة بما تبقى من كُم البدلة الأيسر وأحكم العقدة قدر استطاعته فمنع التسرب. 
لقد حدث كل شيء بسرعة خاطفة بحيث لم تواته الفرصة حتى للأندهاش فلم يعد هناك مايدعو للدهشة. 
عاد الهواء والضغط اعتياديين للبدلة، والدماء التي كانت تتدفق من ذراعه المبتور قد تم السيطرة عليها بأحكام العقدة بالكم. 
كل هذا كان يحدث وسط صمت الفضاء المحيط بهولز في حين كان الرجال الآخرين يثرثرون،  واحدهم كان لسبروهو يتحدث عن زوجاته على كواكب المشتري والمريخ والزهرة وعن ثروته وأوقاته السعيدة. وعن سكره وعربدته ومغامراته و..و..و. 
بينما كان الجميع يهوي ساقطا الى مكان في الكون كان لسبر يستحضر صورا من ماضيه، وكان يشعر بسعادة غامرة وهي تمر في ذاكرته رغم سقوطه الى حتفه. 
  
*** 
كان ذلك شيء غريب، آلاف الأميال من الفضاء تتعالى في مركزه تلك الأصوات،  ولا أحد مرئيٌ منهم على الأطلاق،  ماعدا موجات الراديو اللاسلكية التي كانت تتردد في الفضاء حاملة اصواتهم مثيرة غضب بعضهم على البعض الآخر. 
هل انت غاضب يا هولز؟ 
كلا 
كنت تريد ان تكون في القمة طوال عمرك يا هولز،  كنت دائما تتساءل عما كان يحدث لك. لقد وضعت عليك العلامة السوداء قبل ان انحّي نفسي خارجا. ولم يكن ذلك ذا اهمية فعلا. كل شيء قد انتهى. 
عندما تنتهي الحياة فأن الأمر يكون اشبه بعرض سينمائي سريع يظهر فورا على الشاشة فتتكاثف فيه العواطف والميول دفعة واحدة لتضيء الشاشة فترة من الزمن. وقبل ان تصرخ:"هناك يوم سعيد ويوم تعيس،  هناك وجه للخير ووجه للشر" يحترق الفلم وتظلم الشاشة. 
كل مايتمناه الآن هو ان يبدأ حياته من جديد،  ان يعود ليبدأ حياته من جديد، هل يشعر جميع الأموات بهذا الشعور؟ وكأنهم لم يحيوا ابدا،  هل تبدو الحياة بهذا القدر من الأختصارحقا؟ انها تنتهي حتى قبل ان تأخذ نفسا، هل تبدو هكذا لكل انسان؟ مباغتة ومستحيلة أم انها تبدو هكذا بالنسبة له فقط؟ 
والآن لم يتبق له إلا بضعة ساعات يشاور فيها نفسه، تحدث لسبر قائلا : 
حسنا، لقد عشت اوقاتا اكثر سعادة من أي انسان،  فأن لي زوجات عديدات على المشتري والمريخ والزهرة ولكل منهن ثروة كبيرة وهن يعاملنني بكل حنان وحب، كما انني كنت دائما أشرب حد الثمالة ، ومرة قامرت بعشرين الف دولار. 
قال هولز مع نفسه: 
ولكنك الآن هنا يا لسبر وليس لديك أي شيء من هذا القبيل.كنت أغار منك وأحسدك وعندما كنت احيا حياة لها غد كنت احسدك على نسائك واوقاتك الهنية،  فلطالما كنت اخشى النساء فكنت اهرب الى الفضاء. كنتُ دائما ارغب بهن واغار منك لأنك تمتلكهن،  وتمتلك الثروة.. ولكنك الآن تسقط وحيث ان كل شيء قد انتهى فلم أعد اغار منك بعد الآن..فالآن انتهى كل شيء بالنسبة لك كما انتهى بالنسبة لي ،.في هذه اللحظة اصبح كل شيء كأنه لم يكن أبدا.." 
قدم هولز وجهه الى الأمام وصرخ عبر الهاتف : 
انتهى كل شيء يا لسبر ! 
صمت 
وكأن شيئا لم يكن يا لسبر 
صاح لسبر 
من هذا؟ 
انه انا هولز 
احس هولز بالوضاعة فلقد آلمه ابلكيت قبل لحظات وهو الآن يريد ان يفرغ ألمه في شخص آخر. 
ابلكيت والفضاء كل منهم سبب له جراحا وآلاما. 
لسبر، لقد انتهى كل شيء، يبدو وكأن شيئا لم يحدث أليس كذلك؟ 
كلا 
هل تحيا حياة أفضل مني الآن؟ ماذا تساوي حياتك الآن أهي أفضل من حياتي؟ هل هي كذلك؟ 
نعم انها أفضل! 
كيف؟ 
لقد حصلت منها على ذكريات حلوة،  انني اتذكرها على الأقل 
صرخ لسبربهذه الكلمات بصوت متلاشي،  متمسكا بذكرياته في صدره بكلتا يديه وكان على حق. فمع الشعورِ بمياهٍ باردةٍ صُبت على رأسه ورجليه عرف هولز بأنه على حق فيما يقول هناك فرق بين الذكريات والأحلام فهو لا يملك إلا أحلاما عن أشياء أراد ان يفعلها بينما  لسبر له ذكريات لأفعال حقيقية انجزها. 
فهذه الحقيقة راحت تمزق هولز تمزيقا فصرخ على لسبر : 
ما الخير الذي تفعله لك الذكريات الآن؟ عندما ينقضي أمر فلن تعود له أهمية،  ان حالك الآن ليس بأفضل مني. 
قال لسبر: 
انني اتوصل الى الشعور بالراحة بطريقة أسهل. لقد كان لي دورٌ في الحياة،  فعلى الأقل انني لم اصبح وضيعا مثلك في النهاية. 
و..ضـ...يـ....ـع 
ادار الكلمة على لسانه،  فهو لم يكن وضيعا في حياته من قبل حسب ما يتذكر ولم يسع الى ذلك، فربما كان يوفر ذلك ليوم كهذا،  دحرج الكلمة خلف عقله،  ولم يشعر إلا والدموع قد أغرقت عينيه وتدحرجت على وجهه، تمنى لو يسمعه أي شخص. 
فقال لسبر: 
هون عليك يا هولز 
انه شئ تافه فقبل بضع دقائق كان يسدي النصائح للآخرين والى ستامسون، كان يشعر بالشجاعة في نفسه لأنه يحس بأن الشجاعة هي خصلة من خصاله، والآن فهو يعرف بأن ذلك ماهو إلا صدمة، وخلال الصدمات يكون الشخص اكثر موضوعية، والآن يحاول ان يكثف حياته كلها في لحظات. 
وعاد يقول: 
انا أعرف كيف تشعر يا هولز 
اصبحت المسافة التي تفصلهم عن مركز الأنفجار عشرين ألف ميل وقد أصبح الصوت ضعيفا فقال : 
انا لا آخذ الأمور على نحو شخصي. 
فتساءل هولزمع نفسه : 
ولكن ألسنا متساوين؟ أنا ولسبر؟ هنا والآن؟ ان كان كل شيئ قد انتهى فما الفائدة؟ انك ستموت على اية حال. 
ولكنه كان يعرف بأنه متعقل لأن الأمر كله كان يبدو له كمن يقارن انسانا حيا بجثة، فهناك نبضة حياة في احدهما لا تتوفر في الآخر.هالة..عنصر غامض.. هكذا الأمر مع لسبروهولز فان لسبر عاش حياة طيبة متكاملة جعلت منه الآن رجلامختلفا اما هو هولز فأنه ليس أكثر من رجل ميت منذ سنين. 
انهم الآن يقتربون من حتفهم على طريقين مختلفين، ومع كل أوجه الشبه في ميتتهما ان كان هناك انواع من الموت فنوع ميتتهما سيكون مختلفا كأختلاف الليل من النهار. 
نوعية الموت تشبه تلك التي للحياة، يجب ان تكون على درجة غير محدودة من التنوع وان كان لأي أمرءٍ ــ مات سابقا ! ـ ان يختار فما الذي سيبحث عنه لكي تكون ميتته أفضل في المرة القادمة، كما هي الحال الآن مع هولز؟ 
اكتشف هولز فجأة بأن قدمه اليمنى قد قطعت وانفصلت عن جسمه هي الآخرى، مبتعدة عنه في الفضاء.لقد جعله ذلك يضحك، تسرب الهواء من بدلته مرة أخرى، وبسرعة انحنى الى قدمه المبتورة، كانت الدماء تتدفق منها فالنيزك الذي ضربها قد أخذ معه الجلد وقماش البدلة حتى الركبة. 
آه..ان الموت في الفضاء شيء مثير للضحك، يقطعك قطعة قطعة وكأنه جزار خفي. 
أحكم هولزاغلاق الصمام في ركبته، بدأت رأسه تؤلمه وشعر بدوار قوي، وجاهد لكي يبقى يقضا. 
وبأغلاق الصمام توقف تدفق الدماء، وعاد الهواء الى البدلة من جديد، فبسط جسمه وهو مستمر في السقوط، فهو لا يمتلك شيئا يفعله غير ذلك. 
  
*** 
هولز؟ 
اجاب هولزبأيماءة من رأسه المرهق، فلقد اتعبه انتظار الموت. 
قال الصوت 
انا أبلكيت مرة أخرى 
نعم 
انها طريقة سيئة للموت، لأنها تخرج أحشائك،..اسمعني يا هولز 
نعم 
لقد كذبت عليك قبل لحظات، لقد كذبت، فأنا لم أعرقل انتخابك، ولا أعرف لماذا قلت لك ذلك أعتقد بأنني أردت أن أؤلمك بكلامي، ولكن يبدو بأنك انت الذي آلمني. كنا دائما نتشاجر، يبدو بأنني أهرم سريعا، وأندم سريعا، أعتقد بأن أستماعي لأعترافك على نفسك قد أشعرني بالخجل، ومهما تكن الأسباب فأنني أردتك ان تعرف بأنني أنا أيضا أحمق.. وليس هناك ذرة من الحقيقة فيما قلته لك، تبا لك. 
شعر هولز بأن قلبه قد بدأ ينبض من جديد، وكأنه كان متوقفا،  ولكن الآن بدأت الحياة تدب في جميع أوصاله، وقد عاد اليها لونها ودفئها من جديد، الصدمة قد انتهت ونوبة الغضب والشعور بالوحدة قد مرت، شعر وكأنه خرج توا من حمام بارد في الصباح وانه يستعد لتناول فطوره ومواجهة يوم جديد، فقال بأرتياح : 
شكرا يا أبلكيت 
عفوا..رغم أنفك، أيها الـ... 
هاي.. صاح ستاون 
أجاب هولزعبر الفضاء 
ماذا؟... 
.أجابه لأنه يعتبره أفضل أصدقائه من بين الجميع. 
قال ستاون: 
أنا الآن قد دخلت وسط دوامة من النيازك انها صخور حجرية ومعدنية صغيرة 
نيازك؟..اعتقد انه عنقود النيازك الميرميدونية التي تمر قرب المريخ وتتجه صوب الأرض مرة كل خمس سنين. 
انا الآن وسطها بالضبط انها تشبه النظر داخل ناظور زخارف عملاق (المشكال)، انك تحصل هنا على مختلف الأشكال بمختلف الألوان والاحجام..يا للروعة انه منظر بديع يا لتلك المعادن.. 
صمت وبعد لحظات عاد يقول : 
انا ذاهب معها.. انها تأخذني معها..انني هالك لا محال.. 
قال هذا ثم ضحك. نظر هولز الى اتجاه ستاون ولكنه لم ير إلا الفضاء.. ولكن هناك بعيدا.. يسبح صديقه ستاونمع دوامة النيازك.. يرحلان سوية الى الأبد.. ويتزخرفان سوية بألوان كألوان المشكال.. 
قال ستاونوقد اصبح صوته خافتا جدا : 
وداعا هولز.. وداعا 
صاح هولز: 
حظا طيبا 
انتقل الصوت الى ستاونعلى مسافة ثلاثين الفا من الاميال فأجابه بسخرية : 
لا تكن مضحكا يا هولز 
ثم خمد الصوت. 
ضعفت جميع الأصوات، فكل منهم كان ينطلق كقذيفة، وكل منهم كان ينطلق الى هدف حدده له قدره، بعضهم الى المريخ وبعضهم الى القمر وبعضهم الى اعماق الفضاء.. أما هولز فأنه ينظر الى الأسفل.. هو وحده لديه اسفل اذا كان الأسفل يعني .. الأرض..فهو وحده من بين جميع رفاقه كان يتجه عائدا الى الأرض. 
وداعا.صاح ستاون 
هون عليك قال هولز 
وداعا يا هولز.أصبح صوت ستاون اشد خفوتا الآن.. وداعا 
اصبح هولزالآن وحيدا وهو يسقط، وكذلك الباقون، كل منهم اصبح وحيدا، اصواتهم تلاشت وأصبحت مجرد أصداء لكلمات آتية من أعماق الفضاء. 
كان الكابتن يتجه الى القمر وهاهو يقترب، ويدور ستاون وسط دوامة النيازك وفي اتجاه المريخ ذهب ستامسون بينما كان ابلكيت يتجه الى بلوتو واتجه الباقون وهم سمث و ترنر واندروود الى اعماق الفضاء.. كلهم يكونون صورة كبيرة واسعة وحية في داخل مشكال عظيم.. صورة اجزاؤها تتباعد وتتباعد. 
وانا؟ تساءل هولز ماذا استطيع ان افعل؟ هل هناك ما بوسعي ان افعله لحياة فضيعة وفارغة مثل حياتي؟ لو انني استطيع ان افعل شيئا واحدا جيدا من اجل ان امحو عني صفة الوضاعة التي تغلغلت في داخلي طوال تلك السنين والتي لم اكن اشعر بها وهي تنمو ابدا. 
ولكن لا احد غيري هنا، فكيف تستطيع ان تفعل شيئا طيبا وانت هنا بمفردك وستنتهي بعد قليل؟ 
مساء الغد سوف ادخل الغلاف الجوي للأرض وسأحترق كأي شهاب صغير يومض لفترة جزء من الثانية.. سأستحيل الى رماد يتطاير على قارات الأرض..لا فائدة منه لأي أحد، فالرماد هو الرماد..سيعود الى تراب الأرض. 
  
*** 
  
تهاوى متسارعا نحو الغلاف الجوي للأرض كالرصاصة..كالفقاعة..ككتلة من الحديد، انه الآن ليس سعيدا انما موضوعيا..انه يتمنى ان يفعل اي شيء طيب مهما يكن صغيرا لأي أحد.. فلقد انتهى كل شيء.. يجب ان يفعل شيئا حتى ولو امام نفسه ليثبت لها انه فعل شيئا طيبا لأيٍ كان.. 
عندما ألامس الغلاف الجوي سأستحيل الى شهاب.ترى. هل سيراني أحد؟ 
  
*** 
  
في ليلة رائقة وعلى طريق ريفي نظرت الأم الى السماء المرصعة بالنجوم، ولم تستطع عيناها اللحاق بمشهد سقوط النجمة البيضاء المتوهجة كاملا التي اضاءت منطقة صغيرة من السماء وانما على آخر انطفاءتها..فهتفت مغتبطة موجهة هتافها الى طفلها ذو السنين الستة الذي يصحبها متبعة التقليد الذ يتبعه الناس عادة عند رؤية شهاب في السماء : 
تمن امنية..تمن امنية. 
*** 
  




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق